جلجلة لم تنتهِ* يوسف طراد

النشرة الدولية –

(حصاد الشوك) كتابٌ اختلطت فيه رفاهية الأدب بثقافة الحرب، ليولد تأريخٌ روائيٌّ، يسطع صارخًا متألّمًا، بصوتٍ لا يشبه حرتقة (المسّاس) على محراثٍ في جبلٍ رحل عن ذاته، وتحوّلت جلوله صرخات اختلطت بوجدانية الراوي (إميل منذر) عبر دار سائر المشرق للنشر لتنتشر في أرجاء الوطن علَّها تكون عبرة.

إهداءٌ ينبئُك بمضمون الكتاب، فقيامة الوطن من تحت الرماد تأتي بعد احتراقه، لكن هذه المرّة على أيدي من آمن به وطنًا نهائيًا لجميع أبنائه حسب دستوره. عتبة الصفحات (توطئة) كُتب حبرها بخوف نكء الجراح وغُمِّست أقلامها بأوجاع الوطن ممتشقة الحقيقة التي أزعجت الزعماء. للرواية دزينة أقسامٍ، أولها (قرية من بلادي)، ضمنها تعريفٌ بأشخاص الرواية التي تنبع مزاياها من طبيعة خلاّبة تشبه رفاهية السرد، من خلال وصف الزمن الجميل الذي وُضع في الحرز، واختفى الفرح الساكن في ثنايا النفوس.

وهبَّت العاصفة، 13 نيسان 1975 تاريخٌ أسودٌ لن يمّحى من الذاكرة ولم يكن يومًا عبرةً للمسؤولين عبر مسيرة وطنٍ. بعد هذا التاريخ انتشرت ثقافة الحرب بشكلٍ واسعٍ، استُبدل الحبر بالدماء ليكتب مآسي المراحل، استوطنت البنادق في كفوفٍ نبذت الأقلام وأصبحت الجدران (دفاتر المجانين) حقولًا لتنفيس حقدٍ ارتوى بقلق الاستمرار وكانت الطائفية حطبًا لموقده.

رواية تصف مسير وطنٍ مرهقٍ وانعطافاتٍ حادّة خلال الحرب الأهلية التي لم تنتهِ البتّة. وكأن الحكايات المتناسلة بعضها من بعضٍ الواردة في الكتاب تئد واحدة وتلد أخرى، تطمس نهايات معالمٍ لحدودٍ متحركةٍ لترسم أخرى في بقعةٍ جغرافيةٍ ضيقة. أبطال الرواية يركضون في تيههم اللامعقول، بداياتٌ خبرناها وخبرتنا، وضعها الكاتب في السطور، ضمّت الأرض، الناس، روائح الجبل سلمًا وحربًا، حكايات الحب، وإلفة الناس في القرى. حقائقُ لم تباغت القراء لأنهم ركضوها مسافاتٍ مرتجلةً تارةً وطورًا على ظهر الهلع والخوف.

من بين جميع هذه المآسي تأتي رواية حصاد الشوك متقدمة ومتجاوزة فنًا وأسلوب سردٍ مشوّقٍ، فهي رواية تأريخية توظّف مجموعةً من الحقائق التي ربّما مرّ بها الكاتب وتحتفظ بلغةٍ تراثيةٍ جماليةٍ تتخلل السرد من غير تكلف وغلو. إنها تستفيد من تجارب المؤلف دون أن تغرق في دوامة التأريخ الجاف الذي يحوّل أدب الحرب إلى مجرد تدويناتٍ موثقةٍ تتمحور حول أحداثٍ وقضايا محددة.

(حصاد الشوق) نصوصٌ مخلصةٌ للحقيقة، تنطلق من لغّةٍ متَّقنةٍ في إمكانياتٍ تعبيريةٍ، استطاع إميل منذر من خلالها عبور أهوال الوطن، وجعل قصته راية تدهش القارىء حين يهتف في سره: ما هذا الإقدام في البوح المختبئ بين السطور. تتحرك الرواية بلياقة ولباقة تفتقدها معاني المضمون حين خلط الأديب الحب بالمآسي ودمج قصص الأبطال بالعِقد المتأصلة في جينات السياسيين و المتحاربين على حدٍ سواء. ما يميز هذه الرواية صراحتها وسلاسة أسلوبها، فلم يتبقَّ لمن يبغى النقد مادةٌ تصلح للكشف عن شعورٍ موجّهٍ لعدائيةٍ كامنةٍ في حبر الكاتب، لأنه عرض واقعًا دون تحيّزٍ مع بعض المغالاة في وصف ميزات الشخصيات السياسية ايجابًا بالتساوي مع بعضها.

هذه الرواية تتموضع في زاويةٍ جديدةٍ وموقعٍ يضم أدب الحرب و التهجير، فإذا كانت الأديبة ماري القصيفي تجاوزت عقدة البوح أدبيًا عند الأغلبية في إظهار الحقائق بأسلوب جعل دموع المشاعر تسيل على خدود الروح في رواية (للجبل عندنا خمسة فصول) وإذا كان الكاتب كلوفيس الشويفاتي أرَّخ الحوادث التي جرت قبيل وخلال الحرب الأهلية في العديد من المجلدات وخاصةً (رصاصة الرحمة) فإن إميل منذر قد مزج بتؤدة بين الأدب و التأريخ قافزًا فوق أحادية الكتابة بالنسبة للنوع ليكون أدبه ثنائية فريدة توازي روح الأدباء الذين كتبوا الحرب بمشاعرهم السامية.

المشترك بيت الكتّاب المذكورين هو غزو الوعي غزوًا واقعيًا منتهكين عرض المرحلة التي خلّفت وراءها آلاف الشهداء، وذلك انتقامًا لما فعله الحقد والغباء. فقد أجمعوا على الغفران وواجب النسيان. إن منذر صاحب الرواية ضابطٌ في الجيش اللبناني والشويفاتي مسؤول في القوات اللبنانية، ربما لم يتواجها عبر جبهةٍ خلال الحرب، لكنهما أجتمعا على تسجيل هول هذه الجبهات وصولًا لحتمية النسيان و الغفران.

لماذا يا إميل منذر جعلتنا أحرارًا وعشّاقًا فوق أسوار الوهم ننتظر الشمس على ضفّة ثالثة من ضفاف الوطن، وطننا الذي انتظر قدّيسةً كـ(فيرونيكا) لتمسح وجه جباله التعيسة عبر مسيرة جلجلة لا تنتهي. فموت الفينيق إغفاءة وحيِّ تتراءى مطرًا وسحابًا من رمادٍ، وانبعاثه كبرياء جبلٍ لا ينحني.

يوسف طراد

الخميس 12 كانون الأول 2019

زر الذهاب إلى الأعلى