الإسكندرية مدينة الفن والقتل… مصطفى نصر يكتب عن طقوس الزواج والولادة والموت في الأحياء الشعبية
النشرة الدولية –
يبدأ خيري شلبي روايته “موال البيات والنوم” بمجموعة تجلس في غرفة أشبه بالقاعة الريفية، استضافها واحد من طائفة الكومبارس لكي يعمّروا رءوسهم بنَفَسيْن يصعدان بهما إلى نشوة عالية. هذا ما يستهل به مصطفى نصر مقاله الافتتاحي الحشيش والإسكندرية في كتابه “الإسكندرية مدينة الفن .. العشق والدم”، الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب.
د.محمد رفيق خليل يكتب تقديمًا لكتاب نصر فيقول فيه إن الإسكندر الأكبر لم يؤسس مدينة الإسكندرية عام 232 ق. م، لأنها كانت موجودة قبله بألفي عام أو أكثر تحت اسم “راقودة رع أقو تيس”، أما ما فعله الإسكندر فهو أن أتى بمهندسه دينوقراطيس ليزيد عليها ويعدل من هندسة الجزء الشمالي والشرقي، الذي أضافه ليسكن فيه الإغريق واليهود والجنسيات الأخرى، في الوقت الذي ظل المصريون يسكنون الجزئين الغربي والجنوبي، محتفظين بتراثهم وثقافتهم، حتى وإن كان قد حدث تغيير طفيف في لغتهم وبعض عاداتهم، نتيجة معايشة الأجانب بِيض البشرة في شمال المدينة وشرقها.
ويكمل خليل قائلا إنه منذ ذلك الوقت بدأ نزوح أهل جنوب مصر (الصعايدة) إلى جنوب الإسكندرية، مكونين جزءًا كبيرًا من نسيجها المصري، ومن الصعايدة السكندريين في العصور القديمة يذكر خليل الفيلسوف أفلوطين رائد فلسفة الأفلوطينية الحديثة في العصر الروماني، والإمام البوصيري في العصر المملوكي.
أهالي الإسكندرية خاصة من يسكنون قرب البحر يعملون على أخذ قطعة من شبكة صيد السمك ليتباركوا بها واضعين إياها في محافظهم أو جيوبهم اعتقادًا منهم بأنها تزيد رزقهم
كذلك يقول خليل في تقديمه إننا نشم رائحة الصعيد السكندري في أعمال أدباء كبار مثل إدوار الخراط، إبراهيم عبدالمجيد، مصطفى نصر وغيرهم.
نصر يتحدث في كتابه هذا عن حياة طائفة من سكان الإسكندرية يعملون في حرفة جمع القمامة، وعن طائفتي الحلاقين والمصورين، ولا ينسى أن يقدم وصفًا دقيقًا للطقوس الاجتماعية الخاصة بأهل الإسكندرية، وخاصة في مجتمع صعيد الإسكندرية – الجنوبي. كذلك يكتب نصر عن أبو قير بين الحقيقة والخيال، عن الأحياء الشعبية في الإسكندرية مزايا وجنون، عن فوضى تسمية الشوارع فيها.
نصر يكتب أيضًا عن طقوس الزواج والولادة والموت في الأحياء الشعبية، متحدثًا عن عادات الخطبة، العفش، ليلة الحنة، طقوس الولادة، الرضاعة، الختان والوفاة. كذلك يتحدث في مقال ساخر سمّاه حكايات عن الحمير، عن ولع البعض بها وعن ذكائها، وعن أزمة الحمير التي عانت منها مصر حين قلَّ عددها في الفترة الأخيرة، فبعد أن جمع الشيخ زايد كل حمير الإمارات وأرسلها هدية لمصر، قام كبار التجار ببيعها للمجاهدين الأفغان الذين يحاربون الروس ليحملوا عليها السلاح والطعام والعتاد.
كذلك يذكر ما قاله يحيي حقي عنها في كتابه الجميل “وجدت راحتي مع الحمير”، إن الحمار عينه ذليلة وحزينة وتكاد تترقرق فيها الدموع، وليس صوت حيوان آخر مثل هذه الحرقة والتفجع والمرارة، إنها صرخة عذاب واستغاثة وإشهاد الناس في نوبة متفجرة من بكاء بلا دموع تمزق الهواء ثم تذوب وكأنها لم تكن.
نصر يذكر في مقاله “الإسكندرية والذاكرة المحفوظية” أن نجيب محفوظ كان قد بدأ الكتابة عن الإسكندرية بروايته اللص والكلاب واتجه بها اتجاهًا جديدًا على مستوى الرواية العربية. أما في في مقاله جوستين والشخصية الإسرائيلية في “رباعية الإسكندرية” فيكتب نصر عن رباعية الإسكندرية (جوستين، بلتازار، كاسيا، مونت أوليف) للكاتب الإنجليزي لورانس داريل ذاكرًا أنه عَشِقَ الإسكندرية عِشْق المتيم الولهان، وأنه يلح على أن الإسكندرية هي المرآة التي تعكس وجوه أبطال الرواية، وأنها تفعل بالحب ما تفعله معصرة النبيذ بالعنب.
أما في مقاله “الإسكندرية والسفاحون” فيتساءل نصر بداية هل الإسكندرية حقًّا مدينة السفاحين؟ هذا التساؤل ينبني على ذكر المؤلف أنه ظهر في الإسكندرية في الفترة من 1921 إلى 1960 سفاحون أكثر من أي مدينة مصرية أخرى، ويذكر منهم ريا وسكينة اللتين ظهرتا في حي اللبان عام 1921 وحكايتهما مشهورة جدا، وهناك حسن قناوي الذي ظهر عام 1947 وجعلت قضيته الناس في الإسكندرية ينامون من المغرب، وقد قال قناوي إن جرائمه كان وراء ارتكابها الأمير سليمان داود أحد أفراد أسرة الملك فاروق، إذ كان يستخدمه للتخلص من معارضيه.
كذلك يتحدث نصر عن سعد إسكندر سفاح كرموز وقد ظهر عام 1948 وقد شغل الناس في مصر لمدة خمس سنوات من عام ظهوره وحتى عام 1953 وأثار الرعب والفزع في الإسكندرية بعد سلسلة جرائم قتل ارتكبها خلال تلك الفترة. إلى جانب هذا يتحدث نصر في كتابه الشائق هذا عن المحلات الشهيرة في الإسكندرية ذاكرًا منها البشبيشي بائع الألبان، أبو حمزة الحلواني، الحمراوي بائع الخردوات، فلفل بائع لحم الرأس والفشة والطحال والكوارع، والزعبلاوي بائع المكرونة.
ثم يتحدث عن الحلاقين، والمصوراتية الذين لا يحب أن يدخل محلاتهم، لأن المصوراتي يجعله يتابع صورته بعد أن يصورها، ونصر لا يحب أن يرى نفسه ولا يذهب للمصوراتي إلا للضرورة القصوى. وأيضًا يتحدث عن أشهر الأطباء في هذه المنطقة ومنهم صموئيل إسكندر، وكان جراحًا ماهرًا ودكتور سيزوستريس طبيب الأمراض الباطنية والأطفال الوسيم، صبحي عوض وتخصصه أمراض نساء لكنه كان يعالج كل الأمراض.
وحين يتحدث نصر عن معتقدات أهالي الإسكندرية خاصة من يسكنون قرب البحر يعملون على أخذ قطعة من شبكة صيد السمك ليتباركوا بها واضعين إياها في محافظهم أو جيوبهم اعتقادًا منهم بأنها تزيد رزقهم. ومن معتقدات النساء أيضًا أنهن يضئن مصابيح غرف المنازل مساءً بسرعة حتى تضيء للملائكة، وأنهن يبسملن قبل سكب الماء الساخن في دورات المياه حتى لا يتعرضن لأذى الجن لهن، وأنهن يمنعن أطفالهن من السير في الشوارع وقت صلاة الجمعة لاعتقادهن أن هناك ساعة نحس، وأنهن يرفضن قص الأظافر مساءً لأن ذلك يولد الشر.
نهاية لقد نجح نصر في أن ينقل لنا صورة حية لمدينة الإسكندرية، متحدثًا عنها، تاريخًا وبشرًا، وأماكن يتوق الجميع لزيارتها، والوقوف على روائعها وحكاياتها الجميلة.