لا أسوأ من انحناء الصحافيين أمام الأقوياء* كرم نعمة
النشرة الدولية –
صحيح أن العلاقة سيئة عبر التاريخ بين الصحافة والرؤساء، لكن لا يوجد أسوأ من أن يقدم الصحافيون فروض الولاء والطاعة للزعماء والانحناء أمام أخطائهم!
لأن الرئيس (…) عادة كان قارئا ممتازا لصحافة بلده، في زمن صحافي عربي كان خاضعا برمته للحكومات قبل عصر الإنترنت، فإنه لا يتردد عن قمعها وإخضاعها أو يربت على كتفها، كان ذلك بالأمس عندما لم تكن تخلو مكاتب الزعماء من الصحف.
استعدت ذلك التصور بينما أراقب الاهتمام النقدي المستمر والملفت في الصحافة الغربية بكتاب هارولد هولزر الجديد “الرؤساء بمواجهة الصحافة”.
ثيمة الكتاب سرد تاريخي مشوق للمعارك المتبادلة بين الصحافة الأميركية وثمانية عشر رئيسا من بين 45 رئيسا وصلوا إلى البيت الأبيض.
أجمعت كل العروض المنشورة عن الكتاب على عدم انحياز هولزر لزملاء المهنة وأكتفى بمسح بانورامي للمعارك التي شهدها التاريخ الأميركي خلال قرنين بين الرؤساء والصحافة، مما يوفر فرصة للمهتمين في إيجاد معادل تاريخي بين ما حدث بالأمس مع العداء المستحكم الذي يبديه الرئيس الأميركي دونالد ترامب للصحافة التي لا يرى فيها غير بذرة شيطانية ومصدر للأخبار المزيفة.
ببساطة يمكن فهم هذا العداء التاريخي بين الرؤساء والصحافة، لأن كل الزعماء يعتبرون المعلومات قوة يجب إخفاؤها عن خصومهم ومنع تداولها أو كشفها للجمهور بذرائع شتى، ذلك ما حدث هذا الأسبوع بين الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والصحافي جورج مالبرونو عندما نشر معلومات عن لقاءات الرئيس في لبنان، لأن الرؤساء يعتقدون أن الصحافيين يسيئون قراءتها وإعادة تفسيرها. لذلك لم تبدأ المعركة بهجوم ترامب، هناك تاريخ حافل من العداء المستحكم للصحافة في الدول الديمقراطية، وتاريخ من القمع والحجب والمصادرة والخضوع في الدول العربية!
ينصحنا جاك شيفر كاتب العمود في صحيفة بوليتيكو الأميركية، وهو يقدم قراءة لكتاب “الرؤساء بمواجهة الصحافة” أن نتراجع خطوة إلى الوراء من أجل وقت أهدأ للتفكير بمجرد ارتفاع منسوب الحساسية حيال حرية التعبير، كلما انتزع ترامب أوراق اعتماد مراسل صحافي من البيت الأبيض، لمجرد أنه أطلق سؤالا جادا على الرئيس بحثا عن معلومة جديدة، أو عدم تردد الرئيس بتوجيه الإهانة الجارحة لصحافية على الهواء مباشرة، أو كتابة تغريدات تصف الصحافة بمصدر مستمر للأخبار المزيفة، وأنها عدو الشعب الأول ويجب الانتقام منها.
هدأ من روعك! فقد مر على التاريخ الأميركي العشرات من الرؤساء بدرجات عداء مختلفة من نوعية ترامب بوصفه عدو الصحافة الأول، فحسب وصف كتاب هولزر، لم يكن ترامب العدو الأول للصحافة، وقد لا يكون ضمن المراكز الخمسة الأولى من هؤلاء الأعداء في البيت الأبيض.
من المفيد هنا استعادة ما كتبه قبل أيام بيل غرويسكين الأستاذ في كلية كولومبيا للصحافة، وهو ينصح المراسلين الصحافيين بأن عليهم عدم التردد لأن ترامب “مثل أي رئيس آخر” يحتاج إليهم أكثر مما يحتاجون إليه، على الرغم من صراخه المستمر عن “الأخبار الكاذبة” ومزاعم “عدو الشعب”، لأنه يولي اهتماما وثيقا بالصحافة، وخصوصا تلك التي يعتبرها خصما لدودا له، فترامب عندما يقف على المنصة وينظر إلى مجاميع المراسلين أمامه، فإن الشيء الوحيد الذي يقلقه هو الكراسي الفارغة.
لقد أصبح ترامب كيس اللكمات للصحافة المعاصرة، وبينما يستحق الكثير من الضربات فعلا، يقدم هولزر أدلة على أن باراك أوباما عامل الصحافة معاملة سيئة، لكنها تختلف عن طريقة ترامب المتغطرسة. فقد أخضع أوباما المراسلين لتحقيقات التسريبات الأكثر أهمية على الإطلاق وأخفى عمدا أعمال رئاسته عن التدقيق العام.
وبغض النظر عن طريقة ترامب المبتذلة والمتعجرفة، فإن أوباما أخفى عداوته للصحافة بابتسامة بينما لم يخف ترامب امتعاضه من الصحافة أمام العالم.
هكذا يذكر لنا هذا الكتاب أن جون آدامز الرئيس الثاني للولايات المتحدة (1797 – 1801) وقع على أشد قوانين الفتنة المستخدمة لمقاضاة الصحافيين، والرئيس أبراهام لينكولن سجن العشرات من المحررين خلال الحرب الأهلية ومنع نشر أي رسائل رسمية متبادلة عبر التلغراف، وأوقف صحفا عن الإصدار وصادر مطابعها، بينما كانت لمسة الرئيس ثيودور روزفلت في عقوبة الصحافيين أخف إلى حد ما، عندما أوجد مكانا لنفي الصحافيين الذين يتسببون بإغضابه.
وأعاد الرئيس الثامن والعشرون وودرو ويلسون، خلال الحرب العالمية الأولى، أسوأ ميول لينكولن بفرض الرقابة على الصحافة واعتبارها عدوا.
لذلك يبدو السؤال حسب كتاب “الرؤساء بمواجهة الصحافة” ليس من أين نبدأ بذلك العداء ولكن أين سننتهي. لأن الصحافيين لا يمكن أن يتخلوا عن الفكرة التاريخية التي وسمتهم بحراس الحقيقة ومراقبي فساد الحكومات، وعليهم دائما ألا يثقوا بما يقوله السياسيون وخصوصا الأقوياء منهم. وهذا لا يمنع من القول إن الصحافة أعطت على مر التاريخ للرؤساء بقدر ما حصلت عليه منهم. فهناك صحف دعمت بشكل معلن الزعماء على مختلف توجهاتهم، وهناك عدد أقل وقف بوجه سلطتهم وتقبل نتائج ذلك على قسوتها. وعلينا ألا ننسى مواقف صحف ارتكبت أخطاء شنيعة ونشرت مزاعم غير صحيحة بحق رؤساء، ذلك هو التاريخ الذي لا يمكن لأحد أن يلقم فمه بحجر.
في النهاية يمكن لأي زميل صحافي عربي يمتلك الشجاعة أن يسرد لنا تجربة مفيدة في معاملة الرؤساء للصحافة، أنا شاهد مثلا على تجربة مهمة ومريرة في الصحافة العراقية عندما كان الرئيس الراحل صدام حسين يعطيها من وقته الكثير ويقرأها باهتمام، ليس من أجل الاحتفاء بها فقط، بل بإخضاعها!
لقد نمت كلتا المؤسستين الرئاسية والإعلامية بقوة على مدى العقود الماضية، وكلما ارتفع منسوب القوة لدى أحدهما، لا يبدي الطرف الآخر استعداده للتراجع.
صحيح أن العلاقة سيئة عبر التاريخ بين الصحافة والرؤساء، لكن لا يوجد أسوأ من أن يقدم الصحافيون فروض الولاء والطاعة للزعماء والانحناء أمام أخطائهم!