تراث بيروت المفجوع يتوالد جماليا… منازل وأزقة تسكن اللوحات لتنمو فيها ببطء البراعم* ميموزا العراوي
النشرة الدولية –
الفن المعماري هو جزء لا يتجزأ من ذاكرة لبنان البصرية، كان ولا يزال ملهما للعديد من اللوحات الفنية التي جسّدته حاضرا لم يتحوّل بعد إلى تراث تهدّده الحروب وجشع الكثير من أسياد البلد الذين لا ينظرون إلى أي شيء، أو إلى أي إنسان آخر إلاّ من زاوية النفع المادي.
بيروت التراثية، هذه الحالة النرجسية المتعالية دوما في استمراريتها على كل ما ارتكب بحقها حتى الآن من قبل الجشعين تحت شعار الحداثة المدنية تلقت في 4 أغسطس، يوم الانفجار التاريخي الذي جاء “تتويجا” لكل أشكال الفساد والإجرام الذي لم تستطع ثورة 17 أكتوبر أن تهدّ منه شيئا، تلقت ضربة في كيانها وفي نرجسيتها المُحببة.
غير أن حضورها لم ينطفئ إن في المساعي الصادقة في إعادة إعمارها، أو في خيال الفنانين التشكيليين اللبنانيين، حماة الذاكرة ومضيئي منابر العشق لمدينة لن تموت. لن تموت لا بنسختها التراثية ولا بنسختها الحداثية الوامضة كمنارة في عتمة ليل أغبر.
نذكر من هؤلاء الفنانين عمر أنسي ومصطفى فروخ، مرورا بمحمد قدورة وحسن جوني وجميل ملاعب، وصولا إلى الفنان أمين الباشا الذي توفّي عن عمر يناهز الـ86 عاما.
لا ننسى نوافذه و”أباجوراته” الملونة التي تعشق الطيور زيارتها. نوافذ ملوّحة برطوبة بحر السواحل اللبنانية المُطلة على ذاكرتها، قبل أن تطل على البحر بألوانها الحية والنابضة، وكأنها في أيامها الأولى من الوجود.
مشاهد مُستعادة
بعد انفجار بيروت بأكثر من 15 يوما بدأت الأعمال الفنية التي تتناول بيروت التراثية تتوالد في مراسم الفنانين اللبنانيين. اللافت في معظم هذه الأعمال عدم إمكان وصفها بأنها لوحات “فولكلورية” تصوّر مفاتن مدينة يودّ كل سائح أن يحصل على نسخة منها عند عودته إلى بلده من عطلته الصيفية.
أثار فنية أكثر ما يمكن القول عنها، وبرغم من ضجيج ألوانها في لوحات كثيرة، هي أعمال “مشقّقة”، أي أنها مُصابة في روحها بشقوق طفيفة شبيهة بالتي تُصيب الزجاج لتصدّعه دون أن تحطّمه.
تقف تلك اللوحات كمحامي دفاع لتشرعن اليوم أكثر من أي يوم مضى لوجود بيروت التراثية بعد أن دّمر العديد منها في لحظة واحدة (الساعة السادسة وخمس دقائق)، وبعد أن ارتفع منسوب التهديد بزوالها حده الأقصى.
كما هناك خاصية ثانية بالغة الأهمية، وهي أن معظم المشاهد المرسومة هي تقريبا “مُستعادة”، أي أننا قد نكون شاهدنا ما يشبهها من قبل، وربما كصور فوتوغرافية على البطاقات التذكارية. لكنها اليوم عارية من أدنى غنائية رخيصة.
مشاهد لبيوت ومساكن من بضعة طوابق فقط، جعلها العنف الذي تعرّضت له ونجت منه، وإن بشكل جزئي، أكثر حقيقية
مشاهد لبيوت ومساكن من بضعة طوابق فقط، جعلها العنف الذي تعرضت له ونجت منه، وإن بشكل جزئي، أكثر حقيقية، كما يصقل الألم روح الإنسان جاعلا منه أكثر إنسانية.
من تلك الأعمال نذكر ما قدّمته حديثا الفنانة دعد أبي صعب صوقي، وهو عمل يتنفّس حرارة كامنة في الألوان والمشاعر. وقد أعادت الفنانة نشر عمل فني لها يعود إلى سنة 2016 على صفحتها الفيسبوكية وهو يجسّد مشهدا بيروتيا تراثيا.
عمل فني لافت بدت فيه العاصمة معلقة بين السماء والأرض في بياض أثيري لم تثقله أي خاطرة، ربما إلاّ خاطرة الاندثار والتلاشي في البياض. عمل لافت أرفقته الفنانة بهذه الكلمات “بيروت.. يا بيروت تجسّد لوحة ‘الحس المكاني’ تجسّد الفن المعماري في بعض البيوت القديمة التي كانت ولا تزال شامخة في أزقة الأشرفية قبل الانفجار الكبير”.
ونذكر أيضا لوحة للفنان اللبناني وائل حمادة تظهر فيها بيوت تراثية أغنت بيروت ولبنان بجمالها الآثر، حيث كانت الشرفات تُشرف على زرقة السماء قبل أن تجتاحها الأبنية الرمادية الشاهقة. ويعلّق الفنان على لوحته قائلا “فإن كنت من بلاد الأرز فاجعل من روحك نورا وعنبرا، لأن قصورك باقية في كل ذرة غبار من ذهبك الأصفر”.
غبار الخراب
قدّمت الفنانة ريما صعب أكثر من عمل فني، وهي المعروف عنها اهتمامها الكبير بالحفاظ على تراث بيروت، المدينة المشرقية. من تلك الأعمال نذكر عملا لها يجسّد نافذة خشبية تمدّدت الأسلاك الكهربائية وظلال أغصان الأشجار إليها، كما “حدث ذلك” لنوافذ قصر الأميرة النائمة في القصة الخرافية.
نشرت الفنانة هذه اللوحة على صفحتها الفيسبوكية، وأضافت إلى جانبها هذه الكلمات المؤثرة “إلى متى سنظل نرسم هذه الشبابيك الخشبية والنوافذ الزجاجية الصامتة؟ كم تتكلّم عنا، عن حقيقتنا بعيدا عن كل رياء أو زيف! كم يُسمع لها صراخ أكثر قوة عندما يتّحد صراخها مع هؤلاء الذين لا يقوون على الصراخ!”.
أما الفنان إيلي رزق الله الفنان “المهووس” برسم بيروت المدنيّة، مع اهتمام خاص بكل تفاصيلها، وخاصة تلك غير المرئية بالنسبة للكثيرين، فقدّم ثلاثة أعمال صوّر فيها دمار العاصمة بأجوائها التراثية والحداثية في آن واحد.
مشاهد “اتحادية” تصالحية ما بين الماضي والحاضر في لحظة عنيفة واحدة رفع فيها نبرة التظهير البصري إلى درجة الأيقنة. أطلق الفنان على اللوحات الثلاث هذه العناوين المبدئية: “بيروت/ معلم الفاجعة 1 متحف سرسق”، و”بيروت/ معلم الفاجعة 2 متحف سرسق” و”البيت المنكوب”، وهذه الأخيرة ربما هي اللوحة الأهم إلى الآن وقد يكون ذلك بسب وجود شخص واحد مغشيَ الملامح صوّره الفنان وكأنه من غبار الخرائب.
يسير هذا الشخص أو يقف (أو الاثنان معا) يقف متفقدا ما حوله وكأنه ينظر إلى البيت ليس بوصفه بيتا هو بيته، بل بوصفه “ذاته”. ذاته التي دخل إليها، وعلى جنحها المكسور/ المُثقل، تجوّل في أرجاء الذكرى كما تجوّل معه كل لبناني لم يفقد صلته بعد مع بيروت الحقيقية قبل أن تُنتكب بأسيادها منذ أكثر من ثلاثين عاما وصولا إلى زمن الانفجار وليس فقط إلى يومه.