كيف يحشد “حزب الله” بيئته المتململة؟* فيديل سبيتي
النشرة الدولية –
استخدم “حزب الله” اللبناني كل الأدوية الممكنة لكبح وصول “الألم” إلى عصب جمهوره في الطائفة الشيعية، أو ما يسميهم إعلام الحزب “البيئة الحاضنة”. وكما هو معلوم في ميدان الطب، فإن تواتر التخدير يؤدي بالمريض إلى طلب جرعات إضافية إلى أن يتوقف جسمه عن الاستجابة للمخدر، فلا تنفع معه إضافات جديدة. أما الداء فهو كثير أيضاً، يبدأ من خفوت تصديق الجمهور بروباغندا الحزب حول مقاومة إسرائيل، ثم تبرير حربه في سوريا، ثم مواجهة تداعيات أزمة كورونا، تليها مباشرة تداعيات الأزمة المالية والاقتصادية التي تعصف بلبنان، والحصار المالي على الحزب وتأثيره في البيئة الحاضنة، ثم الصمود في مواجهة ثورة الشعب اللبناني على الطبقة الحاكمة ابتداءً من انتفاضة 17 أكتوبر (تشرين الأول) 2019، ثم قرار المحكمة الدولية في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه، الذي طال أحد قادة الحزب الميدانيين، والتعاطي معه كأنه لم يكن، يليه الانفجار الكبير في مرفأ بيروت الذي يحمل معظم اللبنانيين “حزب الله” المسؤولية عنه، ثم دعوة البطريرك الماروني بشارة الراعي إلى حياد لبنان، الذي واجهه الحزب بتحشيد سياسي طائفي داخل البيئة الحاضنة.
أما الأدوية التي استخدمها “حزب الله” لشد أواصر البيئة الحاضنة ومنع تفككها، فهي في أغلبها لم تعد تقنع هذه البيئة إلا القلة القريبة من نواة الحزب، المستفيدة منه مباشرة، وهي تدور حول بروباغندا المقاومة، ومن ثم التحشيد الطائفي والمذهبي عبر التخويف من الآخر ومن فقدان المكتسبات التي حصدتها الطائفة في العقود الماضية، ثم تأتي المساعدات المادية والعينية المباشرة التي تصل إلى البيئة الحاضنة القريبة، التي تدور في فلك الحزب مباشرة من دون غيرهم من الشيعة اللبنانيين.
العابر في قرى وبلدات جنوب لبنان، يمكنه الانتباه إلى الإهمال الذي طال صور الذين سقطوا في القتال مع إسرائيل، وكان آخرهم قبل 14 عاماً في حرب يوليو (تموز) 2006، ولو أن الشعارات واللافتات التي تثير النخوة في نفوس الجنوبيين في ما يخص “المقاومة الأبدية” في مواجهة إسرائيل، وأهمية السلاح المقاوم وغيرها من شعارات “محور المقاومة” لا تزال على نصاعتها الإنشائية على الرغم من خفوت سطوتها العقائدية. وحلت صور قتلى الحزب في الحرب السورية جديدة ولامعة على مداخل القرى محل تلك القديمة، كما لو أن المعركة الجديدة في سوريا هي المعركة الأم الآن، لمواجهة المشاريع الأميركية والإسرائيلية في المنطقة، في ترديد مكرر داخل البيئة لفكرة الخطر الوجودي الذي يتهدد الطائفة الشيعية، أو الدفاع عن لبنان في مواجهة الإرهاب في الخطاب الموجه إلى العموم.
ما استخدمه الحزب من شعارات وأدلجة متكاملة لتبرير معاركه السورية في السنوات التسع الماضية، إضافة إلى المساعدات المالية والرواتب التي توزع على المقاتلين وعوائل القتلى بشكل كثيف دائم، استطاعت امتصاص التملل في البيئة الحاضنة من جدوى هذه المعارك وموت أبنائها فيها. لكن الحزب يجد نفسه اليوم أمام معضلة استدامة هذا الإقناع، أولاً بسبب فقدان شعارات الحرب السورية مفاعيلها التحشيدية بسبب استطالة أمد المعارك من جهة، وبسبب نقص الإمداد المالي والعيني للبيئة الحاضنة من جهة أخرى. وبعدما كان أغلب الجنوبيين الشيعة يعتقدون أن الحرب السورية هي معركة وجود، أتت الأزمات المتتالية في الداخل اللبناني لتشعرهم أن حزبهم الأثير ينقل معركة الوجود إلى الداخل اللبناني نفسه ويضعهم في مواجهة اللبنانيين الآخرين، أصحاب الآراء والمواقف المتعارضة مع مواقفهم، خصوصاً أن تقارير إسرائيلية تؤكد أن إيران قد خفضت عدد قواتها في سوريا، الأمر الذي يمكن أن يشمل “حزب الله” نفسه. “ويمكن الربط بين المعاناة المالية والسياسية لرعاة النظام السوري، وما ظهر إلى العلن من تراشق بين أقطاب رئيسة في الدائرة الحاكمة في دمشق، اتخذت شكل خلافات مالية عميقة. يظهر مأزق النظام التمويلي العويص بعد سلسلة من تناقص المواد الأولية الأساسية من الأسواق، الأمر الذي يعكس فقدان التمويل الإيراني”، بحسب ما جاء في أحد هذه التقارير.
جميع الذين التقيناهم أثناء إجراء هذا التحقيق من المحازبين والمناصرين والأصدقاء قالوا إن “حزب الله” كان يدفع لمقاتليه خلال الحرب السورية رواتب شهرية ثابتة، في كل بلدة جنوبية يوجد فيها، أي لما يزيد عن 500 شخص في كل بلدة. والرواتب الشهرية كانت توزع على المحازبين المتفرغين، أي أولئك المنضوين في الإطار العسكري للحزب، أو في الإطار التربوي والثقافي والجمعيات والمدارس والمؤسسات التابعة للحزب وهي كثيرة، تضاف إليها رواتب شهرية لعائلات القتلى. وبحسب هؤلاء المناصرين، لم يكن الدعم المالي يقتصر على الرواتب الثابتة، إذ كان يشمل تقديمات مالية ومساعدات اجتماعية تصل إلى أهالي البلدات من غير المحازبين المتفرغين من معوزين وأرامل وأيتام، وهذه المساعدات قد تكون عينية أو نقدية. لكن في الوقت الراهن تقلص الدعم بشكل كبير، فضاقت دائرة المستفيدين في “البيئة الحاضنة”، وباتت تطال المقاتلين وعائلاتهم والحزبيين العاملين في مؤسسات الحزب، من دون المعوزين أو الأنصار في هذه البيئة. وهذا ما أضاف أزمة جديدة على أزمات هذه البيئة، وبالتالي على كاهل الحزب نفسه، الذي بات يتلقى انتقاداً شديداً في داخل الاجتماع الشيعي الذي يعاني كغيره من اللبنانيين من تأثيرات الأزمة المالية العامة ومن انعكاسات الأزمة “الكورونية”، فقد راح الفيروس يتفشى في مختلف المناطق اللبنانية ومنها المناطق التي يسيطر عليها “حزب الله” بشكل مباشر.
الإضاءة على الشح المالي في بيئة الحزب، يحفزه كون المساعدات المالية والرواتب والتقديمات الاجتماعية إحدى الأدوات الرئيسة التي تثبت دعائم شبكته الاجتماعية. وعلى هذا الأساس، أبعد الحزب الطبقات الفقيرة من الطائفة الشيعية عن انتفاضة 17 أكتوبر التي أطلقها اللبنانيون لإسقاط منظومة الفساد والمحاصصة. فراحت وسائل الإعلام التابعة للحزب بالتصويب على التحركات الاحتجاجية مباشرة بعد خطب الأمين العام حسن نصر الله الأولى بشأن الانتفاضة، التي اتهم فيها المحتجين بأنهم ممولون ومدفوعون من “السفارات”، فخرج المشاركون الشيعة الذين كانوا في صلب الانتفاضة منها وراحوا يرددون ما يدلي به الأمين العام في خطبه حول الانتفاضة. وأخذت مقدمات نشرات أخبار تلفزيون “المنار” وتقاريرها تحوي إشارات إلى تسييس الأمور والخوف من أن تكبر أكثر وتأخذ منحى طائفياً. ووصف من يلجأون إلى قطع الطرق بـ”قطاع الطرق” وشُوهت صورة الانتفاضة وأهدافها عند كثيرين من أبناء بيئته الحاضنة. وبعد ارتفاع وتيرة الانتفاضة واتساع مروحتها، انطلق الخطاب التخويني من خلال ادعاء تغلغل ثقافة التطبيع والمجاهرة بها في الانتفاضة.
تمكن الحزب من تحييد الطائفة الشيعية عموماً عن ثورة 17 أكتوبر، بل وهاجمها على الأرض وليس لفظياً فحسب، فأحرق مناصروه خيم المعتصمين واعتدوا على الناشطين. لكن عموم الشيعة في لبنان ليسوا بعيدين عن التأثر بمجريات الفساد اللبناني، فانطلقت اعتصامات مناطقية ضد انقطاع الكهرباء المتمادي، وارتفاع فاتورة مولدات الكهرباء وتقنينها، ثم ارتفاع أسعار المواد الغذائية الخيالي الذي بلغ أربعة أضعاف. فارتفعت وتيرة التململ، واعتصم الأهالي في المناطق التي يسيطر عليها الحزب الذي عمل على إخمادها في مهدها ونجح في ذلك، ملتجئاً إلى أساليب التخدير الموضعي، أي الخطابة التحشيدية، ووضع الناس أمام مصائر شديدة، أولها الحرب مع إسرائيل، ثم التهديد بالعنف الداخلي، وقد وقعت مجموعة حوادث في مناطق مختلطة طائفياً وأدت إلى وقوع قتلى. والتخويف بحرب داخلية غالباً ما ينجح في ضبط الاعتراض وكم الأفواه. ثم أعاد الحزب ترداد الأسطوانة المشروخة حول نزع سلاحه، والسيطرة الأميركية على البلد، وتحرير فلسطين والقدس، واتهام اللبنانيين المطالبين بحياد لبنان عن المعارك الخارجية والإقليمية وإخراجه من المحاور، بالخيانة والعمالة، وهذا يسهم أيضاً في التحشيد والتكتيل. وهذا ما نجح به “حزب الله” في بيئته الضيقة، وبين أكثر أعضاء الطائفة في لبنان، ولو أن قسماً كبيراً من شيعة لبنان، ما عادوا يصدقون هذا النوع من الكلام، بل وانطلقوا بالسخرية من مواقف “حزب الله” اللبنانية ومن خطب أمينه العام، خصوصاً حين طلب من اللبنانيين اللجوء إلى “الجهاد الزراعي” لمواجهة الأزمة الاقتصادية، وقبلها حين أعلن عدم معرفته بعملية تسليم عامر الفاخوري إلى الولايات المتحدة، ثم بإعلانه عدم علمه بوجود نيترات الأمونيوم في مرفأ بيروت، بل وعدم معرفته بأي شي حول مرفأ العاصمة. وهذا القول أثار سخرية كثر لعلم اللبنانيين جميعاً بأن المرفأ من المؤسسات التي تقع تحت سيطرته. والصحافي اللبناني فارس خشان المقيم في أوروبا منذ فترة طويلة، فإنه يرى أن وسائل الإعلام التابعة مباشرة أو غير مباشرة للحزب لم تعد قادرة على إقناع الرأي العام بالبروباغندا التي يرغب الحزب بها. كما أن وسائل التواصل الاجتماعي، لم تصل، يوماً، إلى حالة من التعبئة المعادية لـ”حزب الله”، كما وصلت إليه حالياً، وقد خسر الملف الذي كان يجيد استعماله سابقاً، أي العداء لإسرائيل. لأن كثراً في لبنان باتوا يرون أن الحزب يتوسل عداءه لإسرائيل، من أجل تبرير احتفاظه بسلاحه غير الشرعي الذي يستعمله، ولو من باب التلويح في غالبية الأحيان، في بسط سطوته على الداخل اللبناني.
نقلاً عن موقع “اندبندنت” عربية