الأديبة فاطمة بن محمود: العلاقة بين المرأة والشعر أقدم من الخنساء
النشرة الدولية –
تعرف الساحة الأدبية التونسية العديد من التجارب التي يجمع أصحابها بين كتابة الشعر والقصة والنقد وغيرها من أنماط الكتابة، ولكن قليلة هي الأسماء التي رسخت لها مشروعا أدبيا متكاملا. من بين الأسماء التي رسمت خطاها بثبات في عالم الشعر والقصة نجد الكاتبة والشاعرة التونسية فاطمة بن محمود التي التقتها “العرب” في حوار حول الكتابة وقضايا أخرى، في المقابلة التي أجراها، محمد ناصر المولهي، لصحيفة العرب.
نتحدث بداية مع الكاتبة والشاعرة فاطمة بن محمود حول علاقة الإبداع الأدبي بالفلسفة، تقول “الكتابة لحظة وعي بالضرورة حتى إن ادّعى الكاتب غير ذلك، كل نص يحمل على عاتقه مهمة التعبير عن فكرة، من خلالها يتخذ موقفا فإنه يحمل فلسفة ما بالضرورة، بهذا المعنى نتحدث عن مبدع مثقف يمكن أن ينازل السياسي ويغلبه بقوة النص لا بنص القوة”.
وتتابع “بناء على هذا، قد يكون للمبدع تكوين أكاديمي فتتحول الفلسفة إلى خلفية لنصوصه المختلفة غير أن هذا ليس بشرط لأن الفلسفة ليست شهادة علمية بل نمط تفكير وأسلوب حياة، وهذا ما يجعلها تتدخل في النص الأدبي وتؤثر في القارئ بشكل أو بآخر”.
القصيدة والتعدد
نقاد كثيرون يقولون إن قصيدة النثر أدخلت الشعر العربي في فوضى، تعلق بن محمود متسائلة؛ ما المطلوب من الإبداع تحديدا؟ هل يوجد الأدب ليحافظ على التناسق والنظام؟ هل نحتاج الأدب لنحتفظ بالسائد ونحافظ على الهدوء؟
وتجيب “لا أعتقد ذلك، الدين له قدرة على رص الصفوف بنظام وتناسق والمحافظة على الواقع، أما الإبداع الحقيقي يجب ضرورة أن يخلخل القيم الإبداعية ويرجّ الأصنام الأدبية، أي عليه أن يحلق خارج السرب ويمشي بعيدا عن الزحام”.
تقول الكاتبة “لكن قد تقصد أن قصيدة النثر نشرت فوضى بحكم عدم وضوحها وأنا أتفق معك إلى حد ما في هذا، وأفسر هذه الفوضى بأنها حالة طبيعية أيضا، على قصيدة النثر أن تكون كما تريد وعلى النقاد أن يقتفوا أثرها ويلتقطوا تبعثرها وعلى القراء أن يتفاعلوا معها كل بطريقته إما بالقبول بها أو برفضها، فقط اللامبالاة تجاهها هي التي تقتلها. والزمن هو الذي سيحكم لها أو عليها، لذلك يقدم لنا فرضيتين؛ إما أنه سيجعل لقصيدة النثر معمارها وهندستها وقوانينها وسكانها وإما أن ينتهي إلى أنها لا شيء. أنا مع الفرضية الأولى”.
وفي ردها على سؤالنا أي قصيدة تكتب؟ تقول بن محمود “أنا أكتب شعرا وأميل إلى قصيدة النثر كما أنحاز بشكل واضح إلى الومضة وأعتبرها التمرين الأكثر صعوبة. وفي كل ذلك أكتفي بأن أكتب وأمضي وأترك للقارئ الناقد السلطة التامة للتفاعل مع قصائدي. أما الناقد القارئ فهو لا يعنيني عندما أكتب وبعد أن أكتب. لعله من الوجيه أن أقول إني أميز بين القارئ الناقد والناقد القارئ، إن الأول يقرأ النص ثم يقيّمه والثاني له أحكام جاهزة تمثل مواقف ماقبلية تسبق قراءته للنص. أنا أميل إلى القارئ الناقد وأسخر من الناقد القارئ”.
ربما تشتت كتابة القصة والمقالات مشروع الشاعر وقصيدته، عن هذا الرأي تجيب الكاتبة بطريقتين، تقول “سأجيب بنعم إن افترضت أن للشاعر هواجس ضئيلة وأسئلة قليلة وسقف خيالاته منخفض، كما أن لا قدرة له على صناعة الأحلام، وإذا أضفنا لذلك إمكانيات متواضعة تجعله يعجز عن تطويع اللغة وتوظيفها في أنماط أدبية مختلفة وكل هذا يجعل من ذكائه الأدبي محدودا”.
وتتابع “كما يمكن أن أجيب بلا، بمعنى أن تعدد الأنماط الأدبية التي يمارسها الكاتب لا تستنزفه إذ من المفترض أن تكون له إمكانيات نفسية وتخيلية متفجّرة، بحيث أن نمطا إبداعيا واحدا لا يكفيه ليقول كل ما يشعر به وما يحلم به وما يفكر به، لذلك أنا مع تعدد الوسائط التعبيرية التي تجعل الكاتب ينظر للحياة من زوايا مختلفة ويمشي في طرق مختلفة، أي يمكن أن تتوقعه في أي مكان ولا يمكن أن يُقبض عليه بسهولة”.
الإبداع والسياسة
إن كان يمكننا الحديث عن نص أدبي مؤنث، تقول فاطمة بن محمود “كأنك تريد من خلال هذا السؤال أن تتثبت إن كان يمكن للمرأة أن تكتب شعرا أو أنها دخيلة عليه. صدقا، لم أطمئن للسؤال وأعتقد أنه يضمر شرا بالمرأة ويراها عالة على القصيدة أصلا. ولأني أحسن الظن بك على علمي أنك كاتب استفزازي أقول ربما تقصد من خلال هذا السؤال إن كان النص الأدبي يمكن أن ينشغل بهموم المرأة الشاعرة؟”.
وتتابع “عندها سأقول إن العلاقة بين المرأة والشعر علاقة قديمة جدا وقبل أن تصلنا أنباء عن الخنساء تماضر بنت عمرو نفسها، غير أن التاريخ الذكوري لم ينصف المرأة الشاعرة وجعلها على الهامش فلم تبرز إلا بعض الأسماء التي لم تكن تكفي لتقول موهبتها وتنوع الأغراض الشعرية التي تقولها، للأسف إن ذلك تواصل عبر العصور وننتهي في عصرنا إلى حضور شعري تكتبه المرأة يظل قليلا مقارنة بما حظي به الرجل”.
وتضيف بأن هناك شاعرات معاصرات على نفس الدرجة من الأهمية الشعرية ولكن لسن على نفس الدرجة من الفرص في البروز ولذلك أسباب كثيرة. بالنسبة إليها، تعتبر أن الأدب هو الأدب سواء كان من يكتبه امرأة أو رجلا، حيث لا تميل إلى المقولة النسوية في الأدب لكنها مع القول إن هناك أدبا نسائيا تكتبه المرأة يحمل روحها وتوهجها ويعبر عن شجنها ويحمل أسئلتها.
حول العلاقة بين الكاتب والمبدع عموما والسياسة، تقر بن محمود بأن كل حياد هو خيانة، بمعنى يجب ضرورة أن تكون هناك علاقة بين الكاتب والمبدع عموما والسياسة بما هي شأن عام فتتحول إلى مادة يقتات منها المبدع ويكتب فيها وعنها بعيدا عن كل تحزب، لكنها ترفض انخراط المبدع في اللعبة الأيديولوجية والتحزب الذي يؤثر سلبا على نظرته إلى العالم فتصبح محددة مسبقا كما تكون له أجوبة جاهزة في حين أن الأدب مهمته طرح الأسئلة وزرع القلق وكل ذلك سينتهي بنا إلى نصوص محلية بالمعنى الأيديولوجي والزمني أيضا.
وتضيف الكاتبة “في المقابل لا يجب أن تكون هناك علاقة منسجمة بين المبدع عموما والسياسي وإلا لأصبح الوضع مريبا بمعنى أن العلاقة بينهما تخضع دائما إلى توتر شديد، لأن مواقع كل منهما مختلفة عن الآخر، فإن كان المبدع ينشد القيمة ويهدف إلى الاختلاف والسير خارج النسق وخلخلة السائد، فإن السياسي ينشد النجاعة ويهدف إلى رصّ الصفوف من حوله والمحافظة على الوضع كما يريده ليبرز صوته عاليا على الجميع”.
وتتابع “طبعا يحاول السياسي دائما أن يستميل المبدع حتى يسيطر عليه ويجعله واجهة له. وللأسف، إن العديد من الكتّاب يحتكمون إلى نوع من الخصاصة المادية أو فائض من البراغماتية فيضطرون بمحض إرادتهم إلى الوقوع في فخ السياسي، وبذلك يتحولون إلى مهرجي السلطان برتبة كَتَبَة”.
الأدب التونسي
نسأل الكاتبة حول المسؤول عن الواقع الصعب للأدباء والأدب والكتاب في تونس، فتجيبنا “صدقا لا أريد أن أحمّل السياسي مسؤولية الوضعية الاجتماعية لبعض الكتّاب، بل أحمّله مسؤولية شرائح واسعة في المجتمع من المنسيين والمهمشين والفقراء وهي شرائح تتسع كل يوم خصوصا بعد انهيار الطبقة الوسطى نتيجة اختيارات سياسية فاشلة”.
وتضيف “لكن أعلم أن الوضعية الاجتماعية لبعض الكتّاب صعبة وهذا ما سيجعلهم في حالة هشاشة نفسية وقد يضطرون فيها إلى مقايضة خصاصتهم مقابل تشذيب نصوصهم فتصبح ناعمة وبلا مخالب. لذلك أحمّل الكُتّاب أنفسهم مسؤولية ظروفهم الصعبة، يجب أن ينهضوا بأنفسهم حتى يضمنوا استقلالية أقلامهم ويحفظوا ماء وجوههم. أعرف أن هناك من يقضي عمره من مقهى إلى حانة ومن شارع إلى زقاق يهدر وقته في اللاشيء ويطالب السياسي أن يهتم بقوته وفواتير علاجه، مثل هؤلاء مثيرون للشفقة فعلا”.
في تقييمها للمشهد الأدبي التونسي، تقول بن محمود “إذا كنت تقصد بالمشهد الأدبي الحراك الإبداعي الذي له قدرة على رصد تفاعل مدارس نقدية مختلفة والانتصار لنصوص إبداعية متنوعة وبالتالي المساهمة في تأسيس خلفية أدبية من خلالها تبرز أسماء إبداعية ملهمة بمنجز أدبي لافت، وكل ذلك يتنزل ضمن مسارات ثقافية وأجيال فاعلة لها تأثيرات وبصماتها، فإني بكل أسف أعلن أنه لا يوجد لدينا مشهد أدبي”.
وتلفت إلى أن ما يوجد في تونس الآن هو ساحة أدبية يختلط فيها الحابل بالنابل ويشتد الحراك الأدبي في ما يشبه الضجيج تكثر فيه الذوات المتضخمة وتنتشر العلاقات الإخوانية حيث تطغى المجاملات، في مثل هذا المناخ العفن يظهر بعض الأشخاص ويدعون “الربوبية الأدبية” وفي ساحة هزيلة قد تجد لها قطعانا من أشباه الكتبة ترص الصفوف حولها، وقد يستغل بعض هؤلاء مدعي الربوبية الأدبية وظيفته الإدارية فيتحول إلى حارس الجنان يمنح صكوك المغفرة لهذا ويمنعها عن ذلك، لذلك تعتقد أن في مثل هذه الساحة الأدبية يوجد الكثير من الكَتَبة والقليل من الكُتّاب أي العديد من الكتب والقليل من الإبداع.
عن الحلول الممكنة في رأيها للنهوض بواقع النشر والأدب التونسي، تقول بن محمود “الحلول الممكنة للنهوض بواقع النشر ستكون حلولا جزئية وبلا قيمة لأن المطلوب هو استراتيجية واضحة للنهوض بالمشهد الثقافي عموما والأدبي تحديدا، وقد قلت هذا عندما تم افتتاح مدينة الثقافة بتونس حيث أشرت إلى أن ما نحتاجه ليس بناية فخمة فقط بل استراتيجية ناجعة وتصورات وظيفية يمكن أن تؤسس للثقافة بما هي مشروع تنموي ينهض بالبلاد ويفجر مواهب المبدعين ويستقطب المستهلكين للثقافة وتذهب عميقا في كل الجهات المنسية، وإلا فإننا لن نتحصل إلا على بناء جميل وخال من المثقفين ثم إنه بلا إبداع.
وتتابع “أعتقد أن منح اسم لمدينة الثقافة يعود لأحد وزراء الثقافة، أي لأحد السياسيين، يكشف أن الثقافة في تونس في قبضة السياسي وأن كل حراك فيها هو واجهة لـ’السيستام’، الشاذلي القليبي رحمه الله والذي باسمه أصبحت تسمى مدينة الثقافة قام بواجبه وبما أملاه عليه ضميره المهني وهو مشكور على ذلك، ويمكن أن تسمى باسمه إحدى القاعات الفخمة في وزارة الثقافة أو يمنح اسمه لأحد الشوارع أو إحدى الساحات الجميلة في تونس، أما مدينة الثقافة تظل ملكا للمبدعين إسما واستراتيجية وحراكا”.
نختتم حوارنا مع فاطمة بن محمود حول رؤيتها لمستقبل الأدب في تونس، فتقول “مستقبل الأدب في تونس من مستقبل البلاد، عندما تجد البلاد ربانها الذي ينقذها من براثن الظلام الذي تتخبط فيه الآن ويسير بها نحو الحداثة بخطة واضحة تؤمن أن الثقافة إحدى عناصر التنمية وعجلة مهمة في نهضة الشعوب مثلها مثل عجلة الاقتصاد أو التعليم فتصبح الثقافة خاضعة إلى استراتيجية وبرنامج ورؤية ويشرف عليها من يحمل هاجسا إبداعيا وروحا وطنية، عندها سيكون للثقافة شأن وللأدب قيمة”.