رحمة الله عليك يا ريموندا!* د. توفيق حميد

النشرة الدولية –

أبدى الكثير من المتشددين في مصر، استياءهم وغضبهم الشديد، جراء الذين راحوا يطلبون الرحمة للفتاة “ريموندا عصام” طالبة الثانوي، والتي عرفها الموت بعد صراع مع مرض السرطان، فضجت صفحاتهم على مواقع التواصل الاجتماعي بتعليقات تقول: “إنها مسيحية كافرة لا يجوز الترحم عليها”.

 

وأقل ما يقال في هذه اللحظات إننا نواجه فكرا مخيفا يرفض حتى الرحمة بالكلمات على ملاك طاهر مثل ريموندا!

 

ويذكرني هذا بآية في القرآن الكريم تتكلم عن مثل هؤلاء الذين لا يعرفون أي معنى للإنسانية ويبخلون على غيرهم بأبسط معاني الرحمة فقال فيهم الرحمن “قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّىٓ إِذًا لَّأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ ٱلْإِنفَاقِ ۚ وَكَانَ ٱلْإِنسَٰنُ قَتُورًا” (سورة الإسراء آية 100).

 

والحمد لله أن هؤلاء الذين لم يرحموا الملاك ريموندا بعد موتها لا يملكون خزائن رحمة ربي!

 

ومن زاوية أخرى، فإن ما حدث من هؤلاء المتطرفين يوضح واحدة من أخطر مشاكل فكر التطرف ألا وهو محاسبة الآخرين وإصدار الحكم عليهم. وهم بذلك قد نصبوا أنفسهم شركاء لله في حق حساب البشر وهو حق اختص الله به نفسه فقط فقال (ومن أصدق من الله قولا): “إن إلينا إيابهم ثم إن علينا حسابهم” (سورة الغاشية آية 25 ـ 26)؛ “إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَىٰ وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ” (سورة الحج آية 17)؛ “فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ” (سورة الرعد آية 40)؛ “مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ” (سورة الأنعام آية 52).

 

والعجيب في الأمر أن القرآن أقر وبوضوح أن الرسول عليه السلام لا يدري كيف سيتم محاسبته أو محاسبة غيره من البشر كما جاء في الآية الكريمة “قلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ ۖ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ” (سورة الأحقاف آية 9).

 

فإن كان الرسول لا يعلم كيف سيحكم الله على البشر فهل لهؤلاء المتطرفين أن يعرفوا! وهل يا ترى يستطيعوا أن يؤكدوا لنا أن لهم الجنة! فيا له من غرور أن يظنوا أنهم ضمنوا جنات عدن لأنفسهم فأصبح من حقهم حساب غيرهم من الناس. ويذكرني ذلك بقول عتاة المشركين كما جاء في الذكر القرآني بعضهم يقول “وَلَئِن رُّجِعْتُ إِلَىٰ رَبِّي إِنَّ لِي عِندَهُ لَلْحُسْنَىٰ” (سورة فصلت آية 50).

 

أما من الزاوية الثانية في هذا الأمر فما حدث يحدث وبصورة متكررة بعد وفاة العديد من غير المسلمين فنرى كيف يتم الهجوم من هؤلاء المتطرفين على أي مسلم يترحم عليهم رغم أن “الترحم” هو أقل ما يمكن أن يفعله الضمير الإنساني في مثل هذه الأحوال.

 

وهنا علينا أن نقف لبرهة لنحلل هذا الأمر جيدا لأنه يدلل بوضوح على خلل شنيع في طرق التدريس الدينية سمحت لفكر التطرف الإسلامي أن ينتشر بضراوة دون أن تقف له بمفهوم أقوى منه في الحجة وأفضل منه في البرهان. وكان نتيجة لذلك أن أصبحت أجيال كاملة فريسة لهذا الفكر.

 

وها نحن اليوم نجني من ثمار الحنظل والكراهية التي بثها هذا الفكر في النفوس!

 

فهل من وقفة لنراجع أنفسنا ونبدأ حملة لتطوير للفكر الديني كي نقاوم نيران الكراهية العمياء!

 

وبالإضافة إلى ما تم ذكره أود أن أذكر الجميع في هذه اللحظات أنه حين يذكر الله عز وجل أنه مالك يوم الدين وأنه هو وحده صاحب الحق في حساب البشر {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُم} وحينما يقول لنبيه الكريم {وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ} فعلينا أن نتعلم من ذلك أن حق حساب البشر هو حق مطلق لله وحده لا ينازعه فيه أحد وأن أي محاولات من البعض لإصدار الأحكام على البشر ونعتهم بصفات مثل الكفر والشرك والفجور والزندقة وغيرها من التعبيرات هو منازعة لله في حقه في حساب خلقه.

 

فمن نراه مؤمنا قد لا يقبله الله تعالى ومن نظنه غير مؤمن قد يقبله الله لأنه هو أعلم بظروفه ولذا قيل على لسان الرسول عليه السلام في القرآن كما ذكرنا {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ} .

 

وأتمنى أن يكون موت ريموندا “رحمها الله” هو الشرارة التي تشعل نور الحق كي ينقشع ظلام الكراهية!

 

وأخيرا أقول ـ وبأعلى صوت لي ـ  “رحمك الله ياريموندا”.

زر الذهاب إلى الأعلى