روايةٌ تنتهي ببداية* يوسف طراد

النشرة الدولية –

برعت بارعة الأحمر، أتت جرأتها في التعبير ثابتة، بأسلوبٍ جديد في التأريخ الروائي. فكانت روايتها (تانغو في بيروت…) الصادرة عن دار سائر المشرق عنوانًا آخرًا للأدب السياسي.

(قلب بيروت) بداية الرواية بعد الإهداء، تزخر بالشعر الوصفي الوجداني لأجمل مدينة على شاطىء المتوسّط، عاصمة وطن الأرز والفينيق، التي يكمن جمرها دائمًا تحت الرماد، وقد نهشها الثراء المدقع، فأضاعتها الكاتبة ووجدتها في جغرافية الأمزجة. وصفتها مدينة الهمس جهرًا، عاصمة مدائن الحنان والحبّ، مناضلوها يحاولون الخروج من الزواريب إلى أبدية الصعود. المقطع الثاني (أحبّك)، مليء بالوجدانيات التي فقدناها قبل وبعد عتبة الألفية الثالثة، تعطي عيد الحبّ معاني عديدة جديدة. خلال الرواية، مقطع يؤسّس لسرد أحداث مشوقة مترابطة، فُرضت في واقعٍ مرير مع حبٍّ عسير. (وكان ذاك مساء…) وبدأت الرواية بالفوضى المنظّمة، التي اعتاد عليها اللبنانييون منذ أجيال، كما حضر الزمن الجميل في ذكريات محبّبة في أماكن وصور، بقي منها خيالات في الذاكرة وذكريات عن اندحار العدو الصهيوني. لكن الحاضر الأكبر في خيال البطلة حبيب مقتول ومجهول سبب قتله، رافقها طيفه طوال سرد القصّة.

(عطره) هل هو عطرٌ دبلوماسيٌّ وهل أن العطر الدبلوماسي يختلف عن غيره، فتفوح رائحته على شخصٍ واحد بشكل ابتسامة صامتة خفيفة كالنسيم، أم إنه عطر حبٍّ من نظرة أولى إلى جريمة حبّ أخيرة، بدايتها رقم هاتف مكتوب بخط اليد على ورقة. تكرّ جرائم الحبّ التي تجمع الحبيبين في وقت الصراع قبل الانفجار، ويفترقان بقية الحياة لأجل مبادىء متضاربة على قدرٍ من الأهمّية لكلٍّ منهما، كرقصة التانغو التي تجمع راقصين في وقت الرقص فقط. برغم خطوبتها من (جو) وطيف حبيبها المقتول، تقلب موناليزا بطلة القصّة (صفحة حبّ كبير يرفض الموت بعدما مات صاحبه).

يظهر خلال السرد مجتمع الصحافيين، التي تصبغهم الصداقة بصباغ زائف، ولا تلوّن داخلهم بلونها الصادق، بسبب سباقهم الأبدي في بحثهم عن الخبر والسبق الصحفي، وانتمائهم لطوائفهم وأحزابهم المتخاصمة في العلن، والمتفقة في الخفاء، لتضاف كلّ يوم عشرات جرائم الحبّ بحقّ الوطن، في تظهير صور عديدة متناقضة عن خبر واحد. وأتى (زمن الذلّ) في الخيال مطبوعًا بأسى وألم الكاتبة على صفحات روايتها، واصفة زمن الاعتقالات، إنكار الأخوّة عند صياح الديك، هوس اللبنانيين بأفكار الوطن، الاستقلال والسيادة وعدم شعورهم بحقيقتهم داخل الوطن ولو مرة واحدة. عرضت الكاتبة تفاصيل حرب لبنان بإسهابٍ مختصر، لأن الحرب راسخة في عقول الجميع (المسلمون استعملوا سيف الضيوف ضدّ الوطن فأضاعوا البوصلة، والمسيحيّون قاتلوهم جميعًا، ثم انقسموا ليقاتلوا ضدّ الحرب و أحيانًا مع الحرب ثم ليقاتلوا بعضهم بعضًا). لم يسلم الأحتلال السوري، أو ما يسمّونه الوصاية تخفيفًا من وطأته من قبل المتعاملين معه، من وصفٍ لاذع عن أسلوبه في التعاطي المُنكر مع اللبنانيين، وزحف الزعماء الموقّتين الدائمين، إلى مراكز هذا الاحتلال في البوريفاج، عنجر وقصر المهاجرين طامحين بركوب قطارٍ يضمّ من يحظى بترخيص ترشيحٍ للانتخابات النيابية المعلّبة.

ظهرت الرواية متمرّدة غاضبة من فرط ما تَحمِل من الوجع والعشق غير المترجم، رواية تُشَّبْه مآسى وطن لا تنتهي بأنين أمهات فقدنَّ أبناءهنَّ في المعتقلات، أو التحاقًا بما يسمّى الجهاد مع الإرهابيين، وقد شرّدتهم المفاهيم الخاطئة ولم ينصفهم أحد. كاتبة تعاطفت معهنَّ وعملت لقضيتهنَّ الإنسانية، إذا كانت أشخاص هذه الرواية خارج الخيال، من واقع مؤلم وبأسماء مستعارة. تستحق بطلة القصة لقب صحافية الأمومة المنكوبة.

أما الحبّ الجميل الحميم المرتَحل بين تونس التاريخ الفينيقي، لبنان المجاهد وهبة النيل، هذا الحبّ الذي فقد لمعته مع حوادث 11 أيلول في نيويورك، ثم عاد وارتفع ارتفاع برج إيفل، أعادنا وصف مواقعه إلى أدب الرحلات عند الأديبة غادة السمّان في كتابها “امرأة على قوس قزح”، التي وصفت فيه أجمل مدن أوروبا الواقعة على شواطىء البحار، الأنهار والبحيرات للقارة الهرمة المسكونة بالحبّ، الفنّ والموسيقى. لكن وصف بارعة لبيروت جاء من واقع انتماء محبّب إليها، مكتوب في رسالة وفاء لمدينة لا يفنى مجد الشرق فيها.

قدر نهاية القصّة أن تندمج مع حادثة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، لكن هذه النهاية هي ولادة لوطن، وُلد آلاف المرّات من أرحامٍ مختلفة ومخاضات عسيرة، لتكون مرحلة جديدة من الحرّية غير المسؤولة، علَّها مرحلة توحي للكاتبة ببداية قصّة جديدة تُبدعنا بأسلوبها الشيق عن زمن ما بعد الاحتلال الزاخر بالأحداث.

mon liban

الثلاثاء 25 حزيران 2019

زر الذهاب إلى الأعلى