“قطار السلام” قد لا يتوقف في المحطة اللبنانية* سوسن مهنا

النشرة الدولية –

تُعد مناقشة ملف “السلام” من أكثر المناقشات إثارةً للحساسية والانقسام بين الشعوب العربية، وعلى مستوى الأنظمة والقادة العرب، إذ إن هناك جمهوراً عربياً لا يزال يرى أن فكرة اتفاقات السلام صعبة إن لم تكن مستحيلة. في المقابل، يرى فريق آخر أن العرب استنفدوا وسائل الحرب والنزاعات والمقاطعة، من دون نتيجة، بل على العكس، إسرائيل لم تعد تمتثل للمعاهدات التي وقعتها سابقاً، عدا عن انعكاس ذلك على الشؤون الداخلية لكل دولة من المحيط إلى الخليج، بعدما انتقلت القضية الفلسطينية من الداخل الفلسطيني لتشمل كل العالم العربي، وذلك منذ عام 1948 مع إعلان إسرائيل قيام دولتها. بالتالي انتقلت الأعمال القتالية إلى الخارج، حيث بدأ الفدائيون الفلسطينيون بشن هجمات على إسرائيل من قواعدهم في مصر وقطاع غزة. كما أن هناك دولاً اختل أمنها، مثل لبنان، الذي شهد حرباً أهلية لمدة 15 سنة، شكلت القضية الفلسطينية أحد أبرز عواملها. ومع ذلك، لا يزال الفلسطينيون، يعيشون في الشتات والمخيمات والمنافي، ومن هم في الداخل يعيشون المعاناة والأسر والمآسي على أنواعها، وفقدت القضية الفلسطينية جزءاً كبيراً من المناصرة، بخاصة مع الجيل العربي الجديد، وقد تخسر أكثر في المستقبل.

السلام بين الإمارات وإسرائيل ليس الأول

في هذا السياق يأتي إطلاق الإمارات صفارة إعادة تسيير قطار السلام في المنطقة، بعدما كان متوقفاً لسنوات، مع إطلاق المبادرة العربية في قمة بيروت عام 2002.

الإعلان الإماراتي الجريء، عبّر عنه وزير خارجية الإمارات الشيخ عبد الله بن زايد آل نهيان، في مقال بصحيفة “وول ستريت جورنال” الأميركية، بتاريخ 14 سبتمبر (أيلول) الحالي، بعنوان “سلام. Peace. Shalom”، حيث حدد أولويات السلام، بالحد من التوترات في المنطقة، وتحقيق تقدم على طريق إقامة الدولة الفلسطينية. واعتبر ابن زايد أن “جميع شعوب الشرق الأوسط سئمت الصراع، والأولوية الآن تكمن في مواصلة تحديث مجتمعاتنا وتحقيق الاستقرار في المنطقة بأكملها”. لكن هذه المعاهدة بين الإمارات وإسرائيل ليست الأولى، إذ سبقتها دول عدة، منها 29 دولة عضوة في منظمة المؤتمر الإسلامي.

معاهدة “كامب ديفيد”، أول معاهدة سلام تم التوصل إليها بين مصر وإسرائيل عام 1979، وضعت حداً لثلاثة عقود من الحروب والنزاعات، لكن المعاهدة بين القاهرة وتل أبيب، كانت قد سبقتها “مفاوضات فك الارتباط” بين دمشق وتل أبيب، وتم التوقيع على اتفاقية “فك الاشتباك” في جنيف، في 31 مايو (أيار) 1974.

الأردن أيضاً وقع معاهدة سلام مع إسرائيل حملت اسم “وادي عربة” عام 1994. أما قطر، فبدأت علاقاتها مع إسرائيل بعد مؤتمر مدريد، وتبادل الجانبان مكاتب التمثيل، إضافة إلى سلطنة عمان والمغرب وتونس وموريتانيا. حتى فلسطين ذاتها عقدت اتفاقيات سلام عدة مع إسرائيل، ومن أهمها “اتفاقية أوسلو”، وهي اتفاقية سلام وقعت من قبل الرئيس الراحل ياسر عرفات ورئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين في واشنطن في 13 سبتمبر 1993. أما من بين الدول الإسلامية (غير العربية)، فكانت تركيا أول دولة تعترف بإسرائيل، حيث تبادلتا السفارات، وأصبحت تركيا أحد أكبر مستوردي السلاح من إسرائيل.

لبنان واتفاقية الهدنة

وقعت اتفاقية الهدنة بين بيروت وتل أبيب في 23 مارس (آذار) 1949 في منطقة رأس الناقورة، في الجنوب اللبناني، لكن بعد حدود هدنة عام 1949، ظهرت حدود ما يعرف بـ “الخط الأزرق” الذي رسمته الأمم المتحدة بين لبنان وإسرائيل وهضبة الجولان في 7 يونيو (حزيران) 2000. من هنا يأتي الخلاف تاريخياً، حول أين ينتهي لبنان بالضبط. وأين تبدأ إسرائيل؟ وذلك بسبب وجود ثلاثة خطوط حدودية، وهي: الحدود الدولية 1923، وخط الهدنة 1949، والخط الأزرق 2000. من هنا بدأ الحديث عن احتمال دخول لبنان في معاهدة سلام مع إسرائيل من باب ترسيم الحدود البحرية. وتخلف لبنان إلى الآن عن الاستفادة من اكتشاف الغاز، حيث لا يمكنه إجراء التنقيب قرب الحدود البحرية الإسرائيلية من دون ترسيم الحدود في المنطقة المتنازع عليها، على الرغم من توفر فرصة لوجود الغاز في مياهه الإقليمية.

أين يقف لبنان من عملية السلام؟

لم يقفل المسؤولون اللبنانيون الباب نهائياً أمام هذا الملف، حيث اعتبر الرئيس اللبناني ميشال عون، في حديث إعلامي، أن إبرام لبنان اتفاق سلام مع إسرائيل “يعتمد على عدة أمور، لدينا مشاكل مع إسرائيل، يجب أن نحلها أولاً”. كذلك، اعتبر رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري، أن “المحادثات مع واشنطن في ملف ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل أصبحت في خواتيمها”، ما دفع صحيفة “جيروزاليم بوست” إلى التساؤل حول ما إذا كان هذا التصريح يعني أن السلام بات ممكناً.

ما الموانع التي تحول دون توقيع لبنان لمعاهدة سلام مع إسرائيل؟ وإن لم يفعل، ألا يؤدي ذلك إلى زيادة عزلته على كل الصعد؟ وهل أن توقيت السلام في هذا الوقت بالذات، سينعكس سلباً أو إيجاباً على الوضع اللبناني؟ ماذا لو أن فئة من اللبنانيين تريد ليس تطبيعاً، بل فحسب هدوء الحدود، وتوقف الحرب؟ وهل أن السلام كمطلب لبناني يدخل في خانة الخيانة؟ ما المعطيات التي قد تؤدي إلى قبول الأطراف اللبنانيين جميعاً بركوب قطار السلام؟ أو أن الموضوع لا يزال مستحيلاً؟

يقول وزير العمل اللبناني السابق سجعان قزي لـ”اندبندنت عربية”، إنه “لا يحق لأي فئة لبنانية إعطاء رأيها بقرار الدول العربية التي وقعت اتفاقيات سلام مع إسرائيل، فهذا شأن كل دولة، سواء كنا نؤيد السلام أو نعارضه”. ويرى أنه يجب على اللبنانيين عدم التدخل في شؤون الآخرين واحترام قرارتهم، كما على الآخرين أن يحترموا قرارتنا”.

قرار الإمارات والبحرين سيادي

اعتبر قزي أن ما أقدمت عليه الإمارات والبحرين قرار سيادي يعني شعبي البلدين وقيادتهما “ولا يحق لنا إعطاء أمثولات في الوطنية والعروبة والحرب والسلام لأي دولة قررت أن تتخذ المواقف التي تراها مناسبة لها”، مؤكداً أن “الطرف الوحيد الذي يمكن له أن يأخذ موقفاً من هذا الموضوع، هو الطرف الفلسطيني لأنه صاحب القضية”.

وذكر قزي أن “الفلسطينيين سبقوا الجميع وعقدوا اتفاقات سلام مع إسرائيل منذ عام 1993، وجلسوا جنباً إلى جنب مع الإسرائيليين”.

السلام في المنطقة ينعكس على أمور داخلية لبنانية

لا يرى قزي أن توقيت السلام في هذه المرحلة يؤثر على الوضع اللبناني؛ لأن “وضعنا مُنهار بحيث لم يعد يؤثر عليه شيء”، لكنه يعتبر أن “اتفاقات السلام قد تؤثر على مسار بعض القضايا، وأبرزها مصير حزب الله والمفاوضات حول الحدود اللبنانية – الإسرائيلية، وتطور العلاقات بين القوى السياسية اللبنانية”. ولا يستبعد الوزير السابق أن “تكون التطورات السلمية بين الإمارات والبحرين وإسرائيل انعكست على الموضوع الحكومي أيضاً، فلا نكون ساذجين، ونعتقد أن الأمور تتعلق فحسب بحقيبة وزارة المال”.

 

ولكن ماذا لو أن فئة من اللبنانيين تريد السلام؟

في هذا السياق، يؤيد قزي أن “ينتقل لبنان من مرحلة الحروب المفتوحة إلى مرحلة السلام، ولكن السلام يجب أن يكون على أساس سيادة لبنان واستقلاله، وعلى أساس خط الهدنة وليس الخط الأزرق”، لكنه يرى أن “لبنان اليوم ليس في وضع يسمح له، لا بشن حرب فيزيد دماره، ولا بتوقيع اتفاق سلام، فيزيد انقسامه، وأصلاً لم يطلب أحد منه ذلك”، ولكنه يستدرك ويقول إن “عدم توقيع اتفاق، لا يعني أن تبقى جبهة الجنوب ساحة حرب ومنطلقاً لشن حروب بين إيران وحزب الله وإسرائيل”. ويتابع “إذا كان البعض يريد أن يكون لبنان آخر دولة عربية توقع سلاماً، فلا نريد أن يكون لبنان الدولة العربية الوحيدة التي تقاتل إسرائيل”.

 ظروف السلام غير متوفرة حالياً

برأي قزي، فإن “المرحلة الحالية غير مواتية لتوقيع لبنان على معاهدة سلام مع إسرائيل، والمعطيات اللبنانية معقدة ومنقسمة حيال هذا الأمر. وأساساً لم تطالب أي جهة لبنانية يمينية أو يسارية، من تكتلي 8 أو 14 آذار، مسيحية أو إسلامية، بأن يوقع لبنان اتفاق سلام”.

ويعتقد الوزير قزي أن “السلام يجب أن يكون هدف لبنان، خصوصاً أن الدولة اللبنانية، حتى عندما كانت سوريا تحتل لبنان، أيدت في عهد الرئيس إميل لحود في عام 2002 مبادرة السلام العربية التي قدمها العاهل السعودي الراحل الملك عبد الله بن عبد العزيز، ما يعني أن لبنان اختار قطار السلام من خلال المبادرة العربية، لكنه لم يختر قطار السلام المنفرد”.

ويعتبر قزي أن “الولايات المتحدة وإسرائيل تظنان أنهما تستطيعان في مرحلة لاحقة تحويل المفاوضات الأمنية حول الحدود البحرية والبرية والنفط، إلى مفاوضات سلام. ولهذا السبب هناك اختلاف في لبنان حول مرجعية المفاوضات الحدودية”. ويشير إلى أن الرئيس عون قال في مقابلة لتلفزيون فرنسي في أوائل سبتمبر 2020، إن “السلام مع إسرائيل غير مستحيل، ما يعني بأن باب السلام ليس مقفلاً”. وينفي قزي أن يكون السلام مع إسرائيل سبب الخلاف حول “أي لبنان نريد؟ لأن إسرائيل تقع خارج الخيارات الدستورية اللبنانية”. ويضيف “في السابق كنا نتهم إسرائيل بالوقوف وراء أي حادث يحصل في لبنان، أما اليوم، فحلت محلها دول عربية وإقليمية وفي طليعتها إيران”.

لبنان آخر دولة توقع معاهدة سلام

من جهة أخرى، يقول الكاتب اللبناني راشد الفايد “كان الزعيم العربي جمال عبد الناصر يقول إنه إذا قامت الوحدة العربية سيكون لبنان آخر دولة تنضم إليها من بين الدول العربية، وهذا الكلام ينطبق أيضاً على أي مشروع اتفاق سلام مع دولة إسرائيل، وبسبب تركيبة لبنان السياسية لن يكون سهلاً الدخول في اتفاق سلام، وسيكون لبنان إما آخر دولة عربية توقع، وإما أن يكون ما قبل الأخيرة”. ويرى فايد أنه “يفترض أن يكون هذا الاتفاق متناسباً مع منطق المبادرة العربية لقمة بيروت 2002”.

موقف حزب الله

يرى الفايد أن “طرفاً لبنانياً في التركيبة السياسية اللبنانية سيعارض، وهو “حزب الله”، معتبراً أن “توقيع لبنان مرتبط بالعقوبات التي تتخذها الولايات المتحدة ضد إيران. وقرار حزب الله في القبول أو الرفض قرار إيراني وليس قراراً لبنانياً محلياً. بالتالي هل ستؤدي الضغوطات والعقوبات الأميركية على إيران ومن ينتسبون إليها سياسياً في لبنان إلى إضعافهم وعدم ظهورهم كقوة معطلة لمعاهدة مع إسرائيل؟ يجب ترقب الأشهر الثلاثة المقبلة لنعرف حجم الضغوطات التي تمارسها واشنطن لتجريد طهران من هيمنتها في المنطقة”.

القضية اللبنانية جزء من الصراع الإقليمي والدولي

لا يرى الفايد أن “السلام سيحول الأنظار عن القضية اللبنانية، باعتبار أن الاهتمام بها يتأتى من أنها جزء من الصراع الإقليمي الدائر بين أميركا وإيران من جهة، وأوروبا وتركيا من جهة أخرى”. ويعتبر أن “اهتمام اللبنانيين هو للمضمون الداخلي للأزمة، أي موضوع تشكيل الحكومة، وهل هناك وزارة مرتبطة بطائفة دون الطوائف الأخرى”. ويضيف “عملياً نحن في صراع هو جزء من صراع أكبر يشمل أميركا وإيران وروسيا وتركيا وأوروبا، وبالتالي فإن أي موقف داخلي هو انعكاس لميزان القوى الدولية والإقليمية، وليس فحسب ميزان القوى المحلية”. ولا يرى الفايد أن “لبنان مضطر للاستعجال في توقيع معاهدة سلام مع الكيان الإسرائيلي، لأنه لا يزال يملك اتفاق الهدنة منذ عام 1948، وهي هدنة محترمة ولا تزال سارية المفعول. واذا وضعنا جانباً كلام حزب الله وعنترياته، فإنه (أي الحزب) في الواقع يحافظ بنفسه على الهدنة، وباستثناء ما جرى عام 2006 لا تزال الهدنة محترمة”.

نقلاً عن “اندبندنت عربية”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى