«مالفا»: ابنة بابلو نيرودا المنسية

النشرة الدولية –

إضاءات* إبراهيم عادل –

بعد وفاته بنحو قرنٍ من الزمان، وبمصادفة نادرة في عام 2004 وبينما العالم يحتفي بمئوية شاعر تشيللي الكبير بابلو نيرودا يتم اكتشاف مقبرة ابنته «مالفا» التي ولدت بإعاقةٍ في وجهها، جعلت الأب الشاعر الكبير يتجاهل وجودها تمامًا، وينساها حتى يواريها التراب بعد ولادتها بثمانية أعوام.

تلتقط الشاعرة والروائية الهولندية هاخر بيتزر هذه الحادثة، وبحس الشاعرة الفنانة تبدأ في البحث والتنقيب حول سيرة الشاعر وحياته، لتكشف للقراء ملابسات وتفاصيل هذه الحادثة الغريبة، التي يبدو العالم مصرًا على تجاهلها عامًا بعد آخر، وتقرر أن تخلد حكاية تلك الفتاة المسكينة مالفا في عمل روائي طويل. إذ يبدو أن الأدب في النهاية أكثر بقاءً وترسيخًا للأذهان من نشرات الصحف وعناوين الأخبار مهما كانت غريبة وبراقة.

في واحدة من مساءات صيف مدريد عام 1934 ولدت الطفلة «مالفا» وسماها أبوها على اسم الوردة «مالفا» التي أعجب بها، وكان سعيدًا -كشأن الآباء- أول الأمر بولادة ابنته، إلا أن الأطباء سرعان ما أخبروه بأنها مصابة بإعاقة (داء الاستسقاء الدماغي) الذي لا شفاء لها.

من لحظة وفاتها المأساوية، وبعد تلك المعاناة القصيرة التي عانتها خلال أعوامها الثمانية، تبدأ الكاتبة الرواية بطريقةٍ شاعرية، إذ تجمع الفتاة أخيرًا بوالدها الذي لم يهتم بأمرها في حياته، فتلتقي به في موته في ساتياغو عام 1973 وكأنها تأخذ بيده من منتصف الطريق ليشاهد كيف كانت جنازته المهيبة، ولكي تستعيد معه ذكريات حياته وعلاقته بوالدتها وذكرياته القليلة معها ومع أمها تلك الذكريات التي بدا للجميع أنه نسيها.

تعود الرواية إلى البدايات مستعرضةً بإيجاز تاريخ والديها، أبوها الذي يعرف الجميع كيف بدأ ومن يكون، ثم والدتها الهولندية التي ربما يجهلها الكثيرون ماروكا هاخنار التي تعرف عليها في إندونيسيا ثم انتقل معها إلى مدريد حيث تزوجا وأنجبا هذه الفتاة، وسرعان ما تخلى الزوج الشاعر عن زوجته وابنته ليواصل حياته!

استطاعت الكاتبة أن تعبّر عن «مالفا» وأفكارها وهواجسها بشكلٍ شديد الواقعية، بل لجأت إلى تقنيات مختلفة لكي تملأ عالم تلك الفتاة التي لم تتعرف على كثيرين في حياتها، فجاء الوقت الذي تجتمع فيه بالموتى، الذين تتعرف عليهم وتحكي لهم حكايتها، وتتعرف من خلالهم على آباء آخرين تخلوا عن أبنائهم أيضًا!

تستحضر الرواية عددًا من الشخصيات التي ترافقها في رحلة موتها، وتتبادل معهم الحكايات فيحضر أوسكار بطل رواية «طبل علب الصفيح» لغونتر جراس، ودانيال ابن آرثر ميلر المصاب بمتلازمة دوان، ويلتقون جميعًا بالشاعرة التي تعتبرها جدتها (فيسوافا شيمبورسكا) الحاصلة على نوبل في الآداب 1996 والتي كانت وفاتها عام 2012. تتعرف عليها وتقيم معها حوارًا ثريًا من خلال أشعارها.

من جهة أخرى تذكر الكاتبة أسماء عدد من الأطفال الذين تخلى عنهم آباؤهم، فيأتي ذكر أبناء غوغان الذين تركهم وسافر لكي يواصل رسم لوحاته، وأطفال روسو الذين تركهم في مركز لرعاية الأطفال وتنتهي القائمة بأكثرهم حظًا إدوارد ابن نيتشه المصاب بالشيزوفيرنيا والذي توفي قبل بلوغه العشرين. وهكذا تبدو مالفا وكأنها قادرة على تجاوز مشكلتها/مأساتها والنظر إليها من بعيد:

بعد حالة غوغان الذي تخلى عن عائلته وأطفاله ليسافر إلى تاهيتي حيث يتسنى له رسم النساء الأرستقراطيات، اخترع الفيلسوف برنار ويليامز اسما للحالة هو moral luck [الحظ الأخلاقي]. والحظ الأخلاقي على الأرجح حالة تصيب الرجال المشاهير والناجحين الذين يتخلون عن أبنائهم لمصلحة الإنسانية التي تنتظر أعمالهم وإنجازاتهم وتمنحهم عفوًا شاملاً إذا استغلوا حريتهم المسروقة لوهب الإنسانية أعمالاً وإنجازات خالدة.

حق الحياة والوجود

لعل أحد أهم الأسئلة التي تطرحها الرواية بأسلوبٍ غير مباشر، هو الحق في الحياة، لمن يكون هذا الحق؟ وكيف يوجد؟ وهل لأحدٍ أيًا كان مكانه ومركزه أن يسلب هذا الحق من آخر؟! لم يكن نيرودا مجرد شاعر عادي في تاريخ تشيللي، بل كان علامة بارزة ربما لا يزال يتغنى بأشعاره الكثيرون حتى اليوم، كان صوت المستضعفين ليس في بلاده فحسب بل في العالم كله، ولكن ماذا فعل هذا الرجل مع ابنته؟!

لم أكن أبتسم من تحت التراب، لم أرفع قبضتي فوق الذرى، لم يكن لموتي أي معنى سامٍ. لم أمت من أجل معنى نبيل ولا رفيع، لم أمنح جسدي قربانًا للوطن، ولا كانت أمي أمًا لبطلٍ أو شهيد تحمل وسامه على صدرها… للأسف لم أكن عينة من جيلٍ شاهد على مرحلة حاسمة من أجل مستقبل أفضل. لم أكن سوى نفسي، أو أقل بكثير، كنت مرضًا لم يجد الشعر فيه وفي حياته وفراشه وموته ما يغريه بالاقتراب أو الوصف، لم يجد المجد أو الشرف ما يغري ليمسه ببركته! … لم يكن يجرؤ على قص أظافره بنفسه، فكيف توكل إليه مهمة رفع حظوظ طفلة في الحياة عبر إجبارها على الغذاء والتعامل مع كل هذه الأودات المعقدة؟

هكذا ينتزع عن الشاعر تلك الهالة الأسطورية، ربما يكون قادرًا وببساطة أن ينظم الأشعار أو يدافع عن المستضعفين، وأن يقوم بكل ما قام به «نيرودا» بالفعل، لكن ماذا يفعل الرجل في علاقاته الشخصية في حياته الخاصة؟

هكذا بدا أن حق الوجود يرتبط بالأهداف الكبرى السامية والنبيلة، وأنه ما لم توجد تلك الأهداف، فبإمكان الشاعر الكبير أن يتخلى ببساطة عن ابنته، ويتركها تصارع وحدتها مع أمها! ولكن «مالفا» تعود في هذه الرواية للمرة الأولى والأخيرة لترقب عن كثبٍ حياة والدها، وعلاقاته، ولكي تفترض في النهاية أنه سيجمع الناس من حوله ويعترف بوجودها.

مهمة الشاعر ومسؤولية الأب

تقيم الكاتبة كذلك حوارًا افتراضيًا ذكيًا دالاً بين سقراط وبابلو نيرودا، تعرض فيه طرفًا من الموقف من نيرودا، وكيف يمكن التعامل معه:

سقراط: ألم تكن ابنتك أولى بهذا التمثيل أم أن الأمر يتعلق بطبيعة الدفاع التي كانت عائلية وخاصة، لا وجود لمتفرجين؟ هل التصفيق والتأييد هو ما كنت تبحث عنه؟ هل كانت ابنتك عاجزة عن منحك المجد الذي كنت تطارده لأن الدفاع عن أفواج المجهولين والغرباء كان يكافأ بالاعتراف والتمجيد مادام ينضوي تحت تيار سياسي محبوب وناجح في زمانك؟

نيرودا: لا أنكر أني كنت أود أن تكون لي مهمة كبرى كتلك التي رغبت فيها أنت من الفلسفة، كان الشعر رسالتي وندائي، وفضلاً عن ذلك ساعدت قصائدي أشخاصًا كثيرين لم يكن أبدًا بوسعي أن أساعدهم لو أني تخليت عن الشعر وانكببت على ابنتي أرعاها.

سقراط: لكن الشرف الذي طمحت إليه ولاحقته بإصرار ينهار الآن، ويتحطم ويتلاشى، فما الذي ربحته؟

نيرودا: هناك على الأقل شرفٌ قائمٌ وموجود، ولو كنت عزلت نفسي وكرّست حياتي للاعتناء بابنتي ما وجد هذا الشرف من أساسه، وما حصلت على شرف إجراء محادثة معك.

 

لعل أكثر ما يحسب للكاتبة هاخر بيترز في النهاية هو حياديتها الشديدة في عرض القضية موضوع روايتها، دون أن تبدو متحاملة على الشاعر، رغم إدانته في عدد من المواضع، إلا أن الأمر في النهاية لا يعدو أن يكون كشفًا لحقيقة ربما بقيت لأعوام طويلة طي النسيان. كما أنها استطاعت أن تطرح من خلال الرواية عددًا من الأفكار والمواقف الهامة سواء في حياة الشاعر صاحب القضية أو في حياة الآخرين.

نيرودا في رواياتهم

كتب بابلوا نيرودا سيرته الذاتية «أشهد أني قد عشت» وعرض فيها الكثير من تفاصيل حياته وعلاقاته سواء بزوجاته أو بأصدقائه الشعراء، ولكن يبدو أن سيرة الشاعر الكبير كانت مادة ثرية وخصبة لعدد من الروايات بعد ذلك، فليست المرة الأولى التي يكون بابلوا نيرودا فيها موضوعًا لرواية من الروايات، رغم اختلاف الهدف والتفاصيل هذه المرة، إذ حضر نيرودا من قبل في رواية سكارميتا ذائعة الصيت «ساعي بريد نيرودا» وهي الرواية التي تناولت صيادًا شابًا يهجر مهنته لكي يصبح ساعي بريد خاص بالشاعر بابلو نيرودا ويروي أطرافًا من سيرة الشاعر وحكاية بلاده.

وفي عام 1939 (أي بعد ولادة مالفا بخمس سنوات) جهز بابلو نيرودا لرحلة السفينة «وينبييغ/ الأمل» وهي سفينة أسطورية أبحرت من فرنسا إلى تشيلي حاملة على متنها ألفي لاجئ أسباني فرارًا من نظام فرانكو القمعي، تلتقط الروائية التشيلية هذا الحدث التاريخي الهام أيضًا وتقيم عليها أحداث روايتها الأخيرة الصادرة هذا العام «بتلة بحر طويلة» والتي رأى المترجم والناشر أهمية أن يسميها «سفينة نيرودا» في إشارة مباشرة إلى اسم الشاعر ودوره في هذا الحدث التاريخي الهام. والذي يعرض وجهًا آخر من وجوه بطولة الشاعر الكبير الذي يبدو أن أحدًا لا يود أن ينتقص منها أبدًا!

تتوجه الروائية هاخر بيترز في نهاية الرواية بالشكر لعدد من الأفراد والمؤسسات التي ساعدتها في تجميع معلومات والاطلاع على وثائق ورسائل خاصة ببابلو نيرودا، من بينهم جيني كلاستر التي اكتشفت مقبرة مالفا عام 2004، وعدد من الأشخاص الذين أطلعوها على أرشيف بابلو نيرودا، كما وصلت إلى أخ مالفا بالتبني واسمه فراد يولسنغ وكذلك مؤسسة بابلو نيرودا التي اطلعت من خلالها على مراسلات نيرودا. وعدد آخر من المكتبات والمراكز البحثية الهامة بين هولندا وأمريكا، كل ذلك حتى توثق حكايتها وتضيف لها أبعادًا أخرى.

تجدر الإشارة في النهاية إلى أن الرواية صادرة عن دار الساقي بترجمة الشاعرة لمياء المقدم، التي كان قد سبق أن ترجمت رواية «أنت قلت» لكوني بالمان التي تتحدث عن الشاعر تيد هوز وعلاقته بزوجته سيليفا بلاث.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى