عشوائيات في الحب – العشوائية 47* د. سمير محمد أيوب

النشرة الدولية –

طَمِّنْ بالَكْ

لأني ما زِلتُ أعلم ، أنَّ مِنْ طبائعِ الرّحيلِ إختيارُ الأفضل ، كنتُ كلَّما سألتُكَ هل ستَرْحل ؟! تضْحكُ وتّتَّهِمَني بالجنون اللذيذ ، لأنني اسألك عمّا في علم الله وحده . في توالي هذا الليل ، ألِحُّ عليكَ وأنت تتعافى الآن ، على سرير الاستشفاء في دار النقاهة ، وقد خفت حركة بِيضُ الحمائم من حولك ، أنْ تُبدِّدَ خوفيَ منَ الرحيل ، وأنْ تُؤكِّد ليَ بأنَّكَ باقٍ لأطمَئِن . فمِثْلُك يَتعجَّلُ الرحيلُ في انتقائه ، ومثليَ للوجعِ منذورةً وللبكاء .

إنِ أختارَكَ الرحيلُ يا صاحِ ، وغادَرْتَ مُضطرَّا ، لنْ تَبتعد كثيرا . فكلُّ ما بَيننا مُختلفٌ مُميَّزٌ باستثنائيتِه . ستَظلُّ كحبلِ الوريد قريبا . صوتُك معي أنَّى وجَّهتُ عُيوني ، أوَشْوِشُكَ الفَقْدَ ونحن نُثَرْثرُ كعادتِنا. ثِقْ أنّ مِنْ بَعدِك نبعُ الكَلِمِ لنْ يَنضَبْ ، ولكنَّ الكثيرَ مِنَ الكلامِ سيفقدُ دفئَه المسكوت عنه ، وستَتَبدَّدُ خوافيَ معانيه ، والكثيرَ مِنْ مَذاقِه ونَكهتِه المُبطَّنة .

وكلّما جُنَّ الوجَعُ ، سأحملُه إلى كلِّ أماكنِنا ، لأحكيَ لها عمّا يُؤلِمُني . ونستَعيدُ ساعاتٍ مِمّا أمضينا هنا وهناك . وبحرقةٍ سأبكي , حتى تُعانقَ شفتيَّ دموعٌ صامتةٌ ، تنتظرُ أصابعَك وشفتيك لِتُلَمْلِمها . فأنت وحدَك من يفهمُها ويُهدِّئ منْ رَوْعِها .  لَيتَنا كنَّا نُدركُ مسبقا موعدَ الرّحيل ، لأزددنا اختلاطا واستَزَدْنا  منْ كلّ شيءٍ شَيئا .

سأفتقدُكَ كلّما دقَّتْ ساعةُ مَولدي ، فأنتَ أوَّلُ منْ يأتيَ بالكثيرِ منَ الحب ، ويَسْتَوْلدُ الكثيرَ من الأحلام المُلَوِّنَةِ ، وننثرها معا في كل عام جديد ، أحلاما وأفراحا طازجة .

سأفتقدكَ كلَّ صباحٍ تُشرقُ شمسُه ، ولا تُربِّتْ على ظهري الذي تَحتَضِن , سأفتقدُكَ كلَّ مساءٍ يُداهِمُني دونَ أنْ تَهِمسَ فيه بَوحا حميما ، يستطيلُ مع سهَرِ عيونِ القلب . سأرتجفُ خوفا عندما أركضُ لهاتفي لألتقيك عبرَهُ ، ولا أجدُ ضُحكتكَ تُضيء شاشَتَه . سأغرقُ في يُتْميَ كُلّما اسْتَسْقَتْ طِفلَتي ابتسامَتَك ولمْ تَجدها ، وكلَّما قَفَزَتْ فَرِحَةً ، ولا تُلاقي في منتصفِ الطّريقِ فَرَحَكْ ، فيموتُ يُتْمُها من جديدٍ غَمَّاً وكَمَدا وغَيظاً .

ولَكنْ ، كُلَّما سألونيَ عنِّي ، سأخبرُهُم أنَّك بِخير ، وأنّك تُقبِّلُني كلَّ مساءٍ ، وتَحكيَ لي حكاياتَ الذِّئب مع ليلى ومع يوسف ، وتُحدِّثُني كثيرا عن حوت يونس وسفينةِ نوحٍ عليهم السلام . وحين أغفو مُبتسمةً ، تُدثِّرُني بفرحٍ وشوقٍ . تُطفِئُ النورَ وأنت تغلق الباب وراءَك . وعلى رؤوس أصابعك تُعاود الرحيل . وحين أصحو أحكي لهم عنك ، وحين تعود إليَّ ، أحكي لك عنهم ، قبل أن نتابع حكاوينا .

كي لا نفترقَ قبلَ الأوان ، وأعيشَ اليُتْم المُكرّرَ مُطوَّلا بعدَك ، سأنقشُ حكاوينا على نجوم السماء ، علَّها تهدي حيارى مثلنا ، وأطرِّزُها على نسائمِ ليل العطاش ،علَّها تَروي لهم ظَمَئاً ، وأعطّرُ بشذاها الأرْبُعا ، وأخبِؤُها في حفيف الربيع ، وعميقا في تقاسيم حسون يُرتِّلُ للفَرَحِ ، وبرفقة هديلِ يمامٍ ينوحُ حَزَنا على أصابعٍ مجنونةٍ وشفاهٍ بربريةٍ ووميضِ عيونٍ باتَتْ ثَكلى تائهة .

أيُّها الشقيُّ لا تحزن كثيرا ، طَمِّنْ بالَك فأنا معَك ، لنْ أدَعَكْ تَرحَل وحدَك . خُدْني معَك ، فَكُلُّ المعارِج والمدارِج إليكَ وَلِي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button