مئويةٌ مؤلمة !…* يوسف طراد
النشرة الدولية –
هنيئًا لدار سائر المشرق على إصداره رواية “البنك العثماني” للكاتب سمير زكي في كتابٍ مذهل يتضمّن مأساة كُتبت بالدم النافر والألم المكبوت.
كتابٌ من ثلاثماية وسبع صفحات، مدخله إلى الرواية طويل بعض الشيء يمكن اعتباره روايتين منفصلتين في رواية واحدة، فالحديث عن صلب الرواية بدأ في الصفحة مئة وخمسة ومنذ البداية إلى هذه الصفحة لم يخلُ السرد من التشويق إلى المغامرات أبطال غرام مكائد دسائس سلطة متعجرفة جهل وانعدام ثقة.
التكملة رواية جديدة لا يمكن فصلها عن الصفحات الأولى من جهة الأحداث مع إضافة ضوءٍ ساطع كشف خبايا مجهولة من مأساة الإبادة الأرمنية وترحيل الأرمن قسريًا عن أوطانهم وأراضيهم، كأنك تسلخ الجلد عن الجسم وتشعر بألم القراءة كما ألم السلخ، المقارنة أبعد من التصور بين ألم القارئ و ألم المسلوخ!… روايةٌ تعود بالذكرى إلى مدينة سيواس والإبادة الوحشية، قتل الأمهات أمام عيون الأطفال، ظروف نشأة الأحزاب الأرمنية (الأرميناجان، الهاشناك، الطشناق) مع وصف القوّة الباسلة في داخل قلوبهم التي أبقتهم على قيد الاستمرار.
هذه الرواية تصف الواقع البشع، ظروف الوشايات البغيضة التي وصلت إلى آذان السلطان عبد المجيد وتصوير الأرمن كأنهم (الغول) الذي سيأكل الأتراك والمسلمين ويرميهم في عرض البحر.
مأساة الارتحال والتهجير صيف 1896 يصفها الكاتب بروعة الألم، فتلك الكتلة الأرمنية التي شبّهها باللحم المكدّس في ميناء الإسكندرية عانت الأمرين من المجازر في أرمينيا إلى تضعضع شمل العائلات على دروب المنافي، الخطر الداهم في كلّ لحظةٍ من لحظات رعب خيمت على طريق الأوطان البديلة مع حلم العودة المستحيل التحقيق. ناهيك عن الاستقبال الخجول الممزوج بعدم رضى السلطات فكانت الكنائس الأرمنية هي الحبل الرفيع الذي امتشقه سيل النازحين وخطر انقطاعه لحمله أكثر من طاقته أثناء وضع رحال من تعلّق به، لكن شعب الإسكندرية الكادح الفقير استقبل الوافدين بالترحاب يمتلكهم الأسف والخجل لما حدث من جانب الدول العثمانية.
طابورٌ طويل من النازحين قسرًا أكلوا خبزهم بدموعهم وتملكّتهم غصّة مزدوجة: إنسلاخهم عن موطنهم مع فقدان من فقدوا -رفض الطعام دخول أحشائهم لامتلائها مرارة، ولا من يسقيهم نقطة ماء. كالعادة ينقسم العرب على أتفه القضايا، فكيف إذا كانت القضيّة بحجم المأساة التي حصلت، فقد انقسم الإسكندرانيون نصفين الأوّل مرحّب، مساعد والثاني شاجب وراجم.
لا تستطيع أن تكتم مشاعر مترجمة بدمعٍ على الخد عند قراءتك لجملة (كلّنا عبيد في أي زمان ومكان) ومرورك بأسفٍ وحرقة على تعابير المأساة: (أجساد متلاصقة بغراء الإنسانية المشرّدة وملتحفة بكآبة العار). رواية تتحدّث عن عملٍ مسرحي وهي بحدّ ذاتها مسرحية، تعرض أهوالًا ومآسي كالتي تمرّ اليوم في أوطاننا ولا من يتعظ.
الأرمن هذا الشعب المحبّ للحياة الصنائعي بامتياز المحافظ على مجتمعاته، فلا تشاهد طفلًا أرمنيًا يمدّ يده متسوّلًا، هذا الشعب الذي لا يزال يحمل الظلم من ماضيه يتأبط مرارته، وتظهر ابتسامته الشفّافة مترجمة إنسانيته التي يبذلها من أجل الفقراء فهو من ذاق الألم الفقر العوز التشرّد والحرق هذا الشعب يستحقّ أن تؤرّخ مأساته فكانت رواية (البنك العثماني) واصفة نسبة ضئيلة من التاريخ المهول المشحون، مدونة بصدق حادثة هذا البنك الذي كان القلب النابض للدولة العثمانية.
يوسف طراد
الأربعاء 24 نيسان 2019