وداد رضا الحبيب تكتب في” دمع أسود” للكاتب التونسي عثمان لطرش قصراني: الانسان بين فكّيْ التمييز العنصري و فسيفساء المرآة الواحدة
النشرة الدولية –
في اطار اهتمامنا بالأدب التونسي المعاصر سنتناول من خلال هذا لمقال رواية صادرة في مارس 2020 عن دار نقوش عربيّة بعنوان “دمعٌ أسوَد” للروائي التونسي عثمان لطرش القصراني وهو الإصدار الثالث بعد ” مطماطة ” (2016) و” قروح الحب” (2018). يتناول عثمان لطرش القصراني من خلال اصداره ” دمع أسود ‘ موضوع التمييز العنصري على أساس اللّون و هو موضوع قديم متجدّد من رحم الواقع التونسي في تونس ما بعد الثورة .يطرح الكاتب من خلال هذه القضيّة عديد الاشكاليات السياسية و الاقتصاديّة و الاجتماعية كما يبحر بنا في تخوم الذات و ما تعانيه هذه الفئة من المجتمع – السّود- من تهميش و عنف لفظي ونفسي.وهو ما سنسعى الى بلورته من خلال هذا المقال.
لمحة عن الرواية:
سنحاول في البداية إعطاء لمحة عامة عن فحو الرواية حتّى نمكّن القارئ من الابحار معنا بين سطورها. تسرد “دمع أسود” حكاية “سعديّة ابنة المغبونة” وهي فتاة ذات بشرة سوداء تتألّق في دراستها وتمضي لإتمام المرحلة الجامعيّة في فرنسا بدعم ماليّ من جميع أهل قريتها، الذين جعلوا من نجاحها نجاحا لهم أمام البيض. سعديّة تكتشف هناك حضارة أخرى وتعيد رسم العلاقات بينها وبين الآخر والأشياء والعالم خاصة من خلال الحب حيث استطاع حسن بوعلام وهو أسمر اللون أيضا أن يجدّد ثقتها بنفسها لتكتشف قوّة الحب و قدرته على التحدي لكن يصطدم الحلم بواقع مرير يجعل من النهاية نفقا إلى المجهول. هي حكاية من رحم الواقع التونسيّ ما بعد الثورة. تثير المسكوت عنه وتحفر عميقا في ذوات الشّخصيات لتعرّي الواقع وتضع القارئ أمام تناقضاته فتأخذه إلى ضفاف الانسانيّ فيه.
العتبات:
منذ العتبة الأولى يشير العنوان “دمع أسود” إلى الحزن بجميع تجلياته الرّمزيّة ثم تتضافر باقي العتبات في خدمة مضمون الرّواية. فالغلاف يكتسحه اللّونان الأبيض والأسود. صورة الغلاف امرأة حسناء سمراء يَبرز منها الوجه واليدان فقط، مغمضة العينين في حركة توحي بالوجع الدّاخليّ الدّفين. وكأنّها في رحلة بحث عميقة عن توازنها النفسيّ أو كأنّها تعبّر عن رفضها لهذا الظلم و الحيف الاجتماعي والسياسي على السّواء. فرحلة سعديّة داخليّة نفسيّة تحفر في أعماق الذات و تحاول اعادة بناء الأنا المتعبة من الاقصاء و الاحتقار و التهميش. هذا القتل الصّامت ينخر كيان شريحة كاملة في المجتمع وكأنّهم نشاز طارئ عليه. ” دمع أسود ” رواية تزجّ بالقارئ في متاهة واقع يستنطق الانسان و الأشياء و النباتات و المكان على حدّ السواء. رواية تحفر في المعنى و تثير الأسئلة و تعرّي زيف مجتمع يتشدّق بقيم الانسانيّة و الكونيّة والتسامح و المساواة.
الخطاب السردي التعبيري و جماليّة اللّغة:
لا يمكن للقارئ و من الصفحات الأولى للرواية إلّا أن يقف على جماليّة اللّغة المتدفّقة بسحر الوصف و انسياب الحوار. وقد راوح الكاتب باقتدار بين اللغة العربيّة الفصحى واللهجة العاميّة التونسيّة من قبيل: ” تخرَّفْلك، يعيّشك، طِيري، هاني سكت”، وذلك حسب ما تقتضيه أحداث الرواية وليس على سبيل الحشو أو الزخرف اللفظي. كما أنه يذهب بعيدا في أعماق الشخوص ويضفي أكبر قدر من الواقعيّة على الرواية. وفي المقابل لا تكاد تخلو أي فقرة من الأشكال البلاغيّة المعروفة كالتشبيه والكناية و الاستعارة. وتتميّز الجملة عنده بالعبارات المموسقة و دفء المشاعر وعذوبتها، ذلك أنّ الكاتب يبحر بنا في خفايا النفس فأحداث الرواية نفسيّة بامتياز. نقرأ على لسان حسن في الصفحة 49″ أبحث عن الزجاج المكسور وشظايا المعنى المنثور. كانت يومها قصيدة نثر تبحث عن وزن لا يستقيم وعن تفعيلة لن يحسُن بها جرَسها” . فالكتابة عند عثمان لطرش قصراني من خلال ” دمع أسود” تأخذ بُعدا انسانيا حيث يحفر في رؤى الذات المنغمسة في الموضوع حيث القمع و الاحساس بالقهر و التهميش بسبب التمييز العنصريّ. كلّ ذلك أضفى جماليّة على اللّغة تشدّ القارئ منذ الأسطر الأولى.
شخصيات تتوق إلى الحريّة:
يسافر بنا الروائي من الجنوب التونسي والصحراء حيث ” المغبونة ” إلى فرنسا وتحديدا مدينة تولوز ونهر الغارون إلى دنقلة، سوق البركة في تونس إلى الجامعة الفرنسيّة و سوق فيكتور ايقو ، قاليريلافايات و السوق الشعبيّة بفرنسا بوصف دقيق. كما يجعل للأمكنة مشاعرا فتتفاعل و تأثّر في الشخصيات. يستدرج عثمان لطرش القارئ إلى قراءة واعية للرواية فهو يشتغل على رمزيّة الأمكنة وتاريخيّتها كما يعيد رسم العلاقة بين أبطال الرواية و الأماكن. فسعديّة بطلة الرواية لم تعد سعديّة بنت سعد شوشان بل سعديّة بنت المغبونة (ص 69) ” محت بقلبها ما كتبت على بطاقة الهوية سعديّة بنت سعد شوشان وكتبت بدمعها هويتها الجديدة سعديّة بنت المغبونة”. تتحد سعديّة مع المكان لتتلاشى ملامحها و تصبح امتدادا بل سجينة له، رغم الدراسة ورغم ما حققته من نجاحات على المستوى العلمي و السفر واكتشاف حضارات وثقافات أخرى إلا أنّها بقيت سعديّة بنت المغبونة تتحدث بلسان طقسها الحاد و رياحها المحرقة. لم تستطع أن تتحرّر من الجغرافيا رغم سفرها الجسدي و النفسي و رغم محاولات حسن بأن يبثّ فيها فكرا آخر يقوم على تقبّل الذات أولا والتحرّر من عقدة نظرة الآخر ” الأبيض” لبني جلدتها ” السود ” ثانيا. وهنا لم يعد الانتماء للوطن بل لفئة معيّنة و لقضيّة معيّنة وهي اثبات القدرة على هزيمة البيض و تحقيق النجاحات. وكأنّ سعديّة رمز لقضيّة بأسرها و قد ذهب الكاتب إلى أبعد من ذلك إذ أنّه ومن خلال أسطورة ” بوسعديّة” ( ص 78) أسّس لأسطورة جديدة أو لرمز جديد و هو سعديّة بنت المغبونة. وكلمة مغبونة هنا تختزل كل البؤس و الحرمان و القهر و التهميش لتسدّ أفق الأمل في مستقبل أفضل و كأن سكان المغبونة كانوا على حق عندما رفضوا نفسيا تعويض اسم المغبونة باسم الزهراء بطلب من رئيس الجمهوريّة الحبيب بورقيبة و الواقعةُ هنا من رحم الواقع.
يعيد عثمان لطرش قصراني من خلال ” دمع أسود” علاقتنا بالأشياء من خلال الاشتغال على رمزيتها و الأمثلة في الرواية كثيرة لكنّنا سنكتفي بمثال النافذة. فالنافذة في الرواية حمالة للمعنى بل تنتجه فهي سرداب الزمن في عين سعديّة . وهي أيضا جسر نحو الآخر المختلف. أيضا نافذة الانترنات بالحاسوب التي يعيدها إلى عمقها الحضاري و تذكرها بسجنها المتجدّد مع كل اتصال بأهلها من خلال هذه النافذة. فتحاول البطلة أن تبني لنفسها عالما خاصا لكنّه عالم من المتناقضات ، من اللامعنى ، من مكابدة الهروب الى الضفة الآخرى حيث السكينة والحب والفن والعلم لكنّها لا تجد غير صور المغبونة وصوت الواجب في انتظارها ليزيد من حيرتها، كيف لا وقد ساهم جميع أهل المغبونة في دفع تكلفة سفرها : ”
أنّى لها أن تنسى ولو لوهلة أنّ لا أحد من بني لونها في القرية بخل بما ادّخر من دنانير؟ ألقوا بها في حجر جدّها راضين غير مكرهين داعين لها بالنجاح والظفر وفي قلوبهم إحساس بأنّها في يوم ما سترفع رؤوسهم عاليا أمام البيض الذين يظنّون أنّهم- أي السود- لا يصلحون إلا للطبلة و الزكرة.”
في نفس السّياق يستنطق الكاتب الطبيعة ليجعل منها شخوصا فتتحدث بصمتها ، بهدوئها أو بثورتها فتسرد القصص وتقدّم المواعظ لتعيد طرح الأسئلة الحارقة وتعيد بناء المعنى كما تأثر عميقا في نفسيّة أبطال الرواية . ومن ذلك نذكر فقرات وصف الريح و الأشجار ومياه نهر الغارون و الطقس. لكن وعلى لسان سعديّة بنت المغبونة نلاحظ الهوّة الشاسعة بين جماليّة الطبيعة بفرنسا وقسوتها بالجنوب التونسيّ فنقرأ ( ص 31)” الريح في قريتي قوية في صفيرها وعوائها ومقيتة في شطحات جنون التراب أو الغبار و الحرارة” // وتصف ريح فرنسا فتقول ( ص20) ” هنا لا يطيب المقام لرياح الجنوب الجافة .أحسستُ بنعومة تنزل على وجنتي كأنهما قطعتا ثلج تذوبان ويسيل بردهما كالمرهم اللّين”.
نتوقّف أيضا مع الرقص في رواية دمع أسود إذ له فتنته وجماليّته وايقاعه الخاص جدا فهو رقص على ايقاع الألم و استحضار الماضي والحاضر بقوّة. لرقص السود تاريخ و فلسفة وجود فكلّ حركة تعبّر عن آهة يريد الرّاقص التحرّر منها أو رغبة جامحة في الانتقام لأسلافه من الظلم و القهر. انه رقصٌ للتطهّر وللانعتاق. رقص التوحّد و الانغماس مع الذاكرة المتعبة بالميز العنصريّ. تقول سعديّة في الصفحة 56″ هناك في قريتي البائسة لنا مع الهبلة مواعيد (…) نرقص بلا نظام و أحيانا بعنف لا مثيل له ، رقص بما يشبه الجنون، الراقص كالمقاتل عندنا لا يدّخر من الجهد شيئا ، فيُخرج الواحد لسانه ويفتح الآخر فاه ويمسك شيخ بعصا يلوّح بها (…) كأنّه يريد القصاص ” ثم نقرأ على في الصفحة 128 ” كلّما كساها العرق وتكسّرت عظامها وتليّنت تذكرت قصص بني جلدتها. تتخيّل أجسادهم العارية والسياط تنهال عليهم ساخطة حاقدة، فيرقصون تنفيسا عن مكبوت دهور، كأنّها ترقص من أجلهم” . نتبيّن اذا أن الرّقص في هذه الرواية هو رحلة البحث عن الذات . فهو ليس رقصا مجانيا ولا عبثيا ، وعلى القارئ أن يكون مدركا أن الكاتب عثمان لطرش قصراني يحفر ههنا في الذاكرة الجماعيّة و يعيد للتراث و الأساطير و الرموز أهميتها فمن خلالها فقط يمكن استيعاب الآخر المختلف عنا و ادراك عمقه الانساني و علاقته الطريفة بالحياة و الأشياء من حولنا. يعيد الكتاب اذا طرح قضية جماليّة الجسد من خلال وصف السّود و تفاصيل أجسادهم و الوقوف على الاختلاف بينهم فنجد الأسمر و الزنجيّ و الأسود و هذا الاختلاف نفسه يقيمه السود بين أنفسهم و كأننا بهم يمارسون التمييز العنصري على أساس اللون بينهم كتمييز داخل التمييز . نقرأ في الصفحة 48 على لسان حسن ” سألت جدّتي يوما بعد أن لمزني أحد أقراني بعبارة ” عٍزي” : هل أنا من السود؟ أجابت لا لا لا. أنت حرّ وابن حر. شوف الشعر يا ولدي الزنجي شعره أحرش وأنت يا حسن شعرك أرطب”. جمالية الجسد موضوع طريف و يستحق مزيد النحت خاصة من منظور الرقص الذي قدمه الكاتب بلغة شفافة أنيقة وشعريّة.
كل ذلك يتضافر على جسد الرواية مع الركض والرغبة في الهروب والانعتاق لنقف عند لحظات انتشاء عاشتها البطلة سعديّة بنت المغبونة في غفلة من الذاكرة و ألم الاضطهاد.
* المرأة و فسيفساء المرآة الواحدة:
تكتسح المرأة جسد الرّواية، ولكنّ ما يميّز ” دمع أسود” أنها لا تضعنا أمام نمط معيّن أو صورة أو كليشي واحد للمرأة. فالمرأة هنا متعددة مختلفة متقلّبة وتتطوّر شخصيتها مع أحداث الرواية فنجدها خاضعة للعادات و التقاليد و الأعراف كما تدهشنا بذكائها الحاد و ثورتها وتمنّعها الحديديّ. هي امرأة التناقضات. انها الانسان و الحياة ، إنها الوجود بكل أبعاده.
تنحت الرواية صورة المرأة العاشقة الحالمة في شخص سعديّة والتي تثابر أيضا من أجل تحقيق أحلامها فتتميّز في دراستها و تعود إلى المغبونة ليفخر بها أهلها وتكون عنوانا التألق ومفخرة لهم أمام ” البيض” . لكنّ سعدية نفسها بقيت سجينة هواجسها واحساسها بالنقصان . بقيت رغم كلّ ما حققته سجينة قرارات المجتمع الذكوريّ ” خالها منصور و جدّها “الذي يحدد مستقبلها. بقيت رهينة أخلاقيات قريتها وما يسمى بالشرف لتقف مكبّلة أمام حبها لحسن.
الرواية أيضا تضعنا أمام شخصيتين متناقضتين سعديّة من حيث تعففها وعدم اكتراثها بما يملكه حسن من ثروة طائلة فهو ابن ” رجل مغربيّ لا يعرف لثروته حدّا ولا لأرصدته رقما ولا لدراهمه عدّا” ( ص 35). فالمال إذا لا يغريها و هي هنا امرأة المبادئ و القيم تبحث عن الانسانيّ فيه – اي حسن- ليبقى المال ثانويا في حياتها و في سلّم أولوياتها. في المقابل نجد شخصيّة دليلة والدة حسن و هي تونسيّة شقراء استطاعت أن تفتن رشيد بو علام ، والد حسن، بجمالها و توقعه في غرامها. وقد فعلت ذلك رغم سمرته القمحيّة ليس حبا فيه بل في ماله و ثروته. نقرأ في الصفحة 91 على لسان حسن يسأل جدّته من أمّه ” لمَ رضيتْ أمّي الشقراء بأبي الأسمر” فتجيب الجدّة ” عندما تكبر ستعرف كيف تنهزم النساء أمام بريق الذهب ورنين الدراهم والبدلات الأنيقة والعطر النفيس.” و من هنا نستطيع أن نقول أن رواية دمع أسود تقدّم أيضا دراسة ماركسيّة حيث الصراع الطبقي الاجتماعي و لها بعد سياسي يمكن أن نفرد له قراءة ثانية في مقال آخر. كما أنّ دليلة تجسّد ازدراء البيض للسود. دليلة هي رمز لمجتمع يمارس التمييز العنصريّ بأبشع صوره ويبلغ منتهاه مع رفضها القاطع لزواج ابنها الأسمر من سوداء إلى درجة اختطاف العروس و حرق المصنع الذي شيّده حسن لأبناء المغبونة. هذه اللوحة الدراميّة تصور عجز العلم و الفن و الانفتاح الثقافي الذي عاشته سعديّة أمام التمييز العنصري و القمع و الظلم المسلّط على السود. نفس الحقد و اللؤم أيضا مارسته وحيدة على سعديّة فبادرت الكره بالكره و الحقد بالحقد لكن كانت ردة فعل سعديّة اتجاه وحيدة بكبت مشاعرها الثائرة و توجيهها الى العمل و الدراسة وتحقيق النجاحات واثبات الذات .
امرأة أخرى تستوقفنا و قد لعبت دورا مهما وهي مليكة. في الضفّة الأخرى من البحر الأبيض المتوسّط حيث الجامعة و العلم و الفنون، كان اللقاء مع مليكة لتعيد رسم الانسانيّة في أجمل تجلياتها و لتتعانق المرأة ذات البشرة البيضاء مع شقيقتها السوداء. مليكة تنسج نمطا آخر من الوعي و التسامح و حب الآخر. الحوار معها يأخذ بعدا انسانيا عميقا فتتلاشى الحدود و الفواصل و الألوان و الاختلافات. تتحد و تتوحّد مع سعديّة في أكثر من فقرة نفسيا و جسديا ليتعانقا وليلتئم شمل الانسان بما هو كيان كونيّ يستمد جماليّته من الاختلاف عينه. نقرأ في الصفحة (124)”في فراش واحد يكاد يسقط يلتحم جسدان وتمضي الليلة تلو الأخرى(…) ” ثم نقرأ في نفس الصفحة على لسان سعديّة ” يا مليكة أنت بياض يغتال سوادي. أنت النقاء والبهاء. في مراياك أرى نفسي بيضاء أو هي على الأقل ليست سوداء قاتمة”. مليكة كانت إذا صوت العقل و الحكمة و الرحمة داخل الرواية وقد ساهمت بشكر واضح في نحت شخصيّة جديدة لسعدية بنت المغبونة، شخصيّة أكثر اتزانا وثقة بالنفس. وهي في ذلك تتلاقى مع حسن في حواراته المطوّلة مع سعديّة يحدثها عن شخصيات تاريخيّة من السود اجتازوا محنة الاختلاف و العنصريّة و حققوا توازنهم النفسي و أثّروا في العالم من حولهم. من ذلك نذكر” إمي سيزار و سيدار سينغور”.
إذا تتزاحم صور المرأة في رواية دمع أسود لتنسج لوحة التناقضات حيث الصراعات و الثورات و أيضا حيث المحبّة و التوحّد و الاكتمال. أليست هذه اللوحة نموذجا مصغّرا عن الانسانيّة جمعاء؟
دمع أسود وأنين التهميش السياسي و الاقتصادي:
كما كنا قد أشرنا آنفا فانّ الرواية تعرّي أيضا واقعا سياسيا اقتصاديا متعفّنا يجمع بين التوحّش الرأسمالي و تفشي الفساد السياسي و الاداري و تهميش المناطق الداخليّة و الحيف الاجتماعي.
منذ الصفحات الأولى للرواية إلى آخر نبض فيها نقرأ بشكل معلن أو من بين السطور ادانة النظام السياسي القائم بنقد واضح و صريح للبيروقراطيّة التونسيّة و تسلّط العمدة و الوالي و المسؤولين على السكان و حتى على من أراد انشاء مشروع أو تحقيق حلم السفر للدراسة في الخارج. المتاعب و المماطلات الادارية بسبب و من غير سبب تطرّز جسد الرواية من البداية عندما أرادت سعديّة السفر لفرنسا لإتمام المرحلة الجامعيّة إلى العراقيل التي وضعت عن قصد أمام عزم حسن انشاء المصنع بالمغبونة. مشهد اعتاده التونسيون، خاصة موقف الصور الفلكلورية للمسؤولين و تدشين المصنع من قبل أهل السلطة لتحقيق انجازات وهميّة بتعب ومثابرة غيرهم. مشهد رفضه حسن فقرّر عدم الاحتفاء بالمصنع مما أثار غضب وسخط المسؤولين المحليين. نقرأ في الرواية الكلمات التالية ” أرستقراطيا / ضحايا الرأسمالية / اللبراليّة …”.
الرواية تصف الانسان المعاصر الذي وجب انقاذه من التشيّء في ظلّ ما يسمى بالعولمة و اللبراليّة المتوحشة و تغوّل التفكير الرأسمالي. و من هنا تأخذ الرواية بعدا آخر لنتساءل أو ليست الكتابة الابداعيّة في حدّ ذاتها شكل من أشكال النّضال ضد الاستبداد السياسي و العنف المجتمعي.
و من هذا الهاجس نقرأ في الرواية عديد الجمل التي نسمع من خلالها صوت الكاتب مثل ” الذاكرة تسكننا، هي منّا بعض الكيان وأحيانا بعض الهذيان “/ ” هل مات خالقها؟ وهل يموت الخالق؟ لو كتب اسمه لسكن قلب التاريخ” / ” العين التي لا تبصر البؤس عمياء” / ” ماذا لو يعيش العالم يوما بلا كلام؟ ماذا لو خلقنا بلا ألسنة؟ ” / ” لم يعد يجمعنا سوى الموت”.
أسئلة وجوديّة فلسفية تغري القارئ بالتفكير و تجعله شريكا في بناء المعنى و هي المقاومة الحقيقية ضد التحنيط و جعل الشعوب أشبه ما تكون بالقطيع. و من هنا يقترح عثمان لطرش قصراني مشروعا ثقافيا اجتماعيا سياسيا عماده العلم و الفن و الحب. نقرأ في الرواية ” أنا لست من هؤلاء و قد استنار عقلي بالعلم” / ” تذكّرت جملة خطّها سلامة موسى بعد رحلته إلى الديار الباريسيّة ” أهل البلاد الأوروباويّة عقيدتهم الفنون”…
الخاتمة:
أعاد الأديب التونسي عثمان لطرش القصراني طرح قضيّة التمييز العنصري بأسلوب ماتع و مختلف وضّف فيه القصة و الخرافة و أعاد للأساطير رمزيّتها. رواية البوح و الحفر في العمق الانساني. لامست هذه الرواية قضايا انسانيّة اجتماعية سياسيّة اقتصاديّة طرّزها الكاتب باقتدار و جعل من القارئ شريكا له في بناء المعنى .