الموت خلل في الوجود * آلى حميدي
النشرة الدولية –
(أكتب هذا النص إلى جميع الأجساد التي أصُيبت بخلل الموت. “الموتى” بحسب التسميات البائسة. الساكنون في عوالم أخرى؛ منشغلون كليا عن عالمنا، فاقدين الإدراك عن وجودهم مرةً هنا؛ على هذا الكوكب وحياتهم التي مضت فيه. سأصبح بينكم ذات يوم).
بعمر السادسة، ذهبت لشراء دجاجة لأجل ولمية نعدها كعائلة يوم الجمعة. في ذلك الوقت، كان الطريق من بيتنا إلى محل بيع الدجاج طويلا، أفكر اليوم وأدرك أنه لا يبلغ الـ20 دقيقة جيئة وذهابا. وقتها، لم يكن مفهوم لماذا ومن أين أتت رغبة البائع بدعوتي للذهاب معه إلى الجزء الخلفي الغائب عن الأنظار من محله، تحديدا وراء أقفاص الدجاج “الحي” المتكدس فوق بعضه البعض، لمشاهدة عملية “إخراج الروح من الدجاجة”، كما وصف حينها. يدخل يده العارية بلا “قفازات” داخل القفص، ممسكا لا على التعيين بعنق أحد الدجاجات، غير مكترث لسرعة ضربات أجنحتها في الهواء، في محاولة بائسة منها للنجاة. “أجنحة بدون القدرة على الطيران؛ خلل بائس ومضحك”.
تتوقف مقاومة الأجنحة بعد مرور سريع للسكين مع تمتمات باسم الله، يدنو عنقها نحو الأسفل، يسود الصمت الذي يكسر بعد لحظات قليلة بدوران برميل رمادي، قدر صدئ ضخم مليء بالفتحات على امتداده، كأنها ثقوب من فعل اختراق رصاصات منتظمة. يضع جسد الدجاجة الساكن داخل البرميل، جسد هادئ لكن لا يزال قادرا على إثبات وجوده بصوت أشبه بالضربات، نتيجة لملامسة أسطح البرميل المثقب. أصوات ارتطامات متتالية وريش يطير حول البرميل. يعلق بعضه في الفتحات، وكأن في جوفه ملاك بأجنحته يُسلَخ ويُنتف. إذا الموت ليس مرعبا كما تصورت. ريش متطاير وأصوات ضربات خفيفة.
في السياقات الشاعرية يقال بأن البجع يقضي حياته سابحا في سكونٍ مطبق، إلا حين يشعر باقتراب الموت منه، فيبدأ (للمرّة الأولى) في إصدار أصوات تتراوح بين الغناء والعويل كوداعية أخيرة من الوضعية “الحية”.
إذا لا موت في الكون، بل إعادة تدوير مستمرة ومتغيرة للأشكال والوضعيات، يتداخل فيه الزمان والمكان إلى أبعاد لا نهاية من التكوين والخلق
في سياق معاكس للنواح الوداعي للبجع، يظهر في مشهد نشر عام 2000 في “نيويورك تايمز” للمصور “خافيير باولوز”، استقرار “جثة” رجل على أحد شواطئ إسبانيا، عابرا البحر المتوسط من المغرب باتجاه أوروبا، ممددا على الرمال، ساكنا، مستسلما كأنه أتم مهمته في الوصول إلى الطرف الأكثر “أمانا”. على بعد أمتار قليلة، يظهر شخصان بوضعية الاسترخاء التام على الشاطئ، لا يبدو الذعر أو عدم الارتياح على أجسادهم. جميعهم مستقرون تحت أشعة الشمس؛ جسد الرجل الغريق والأحياء.
في ذلك الوقت أثارت الصورة الكثير من الجدل وتم التشكيك بمصداقية محتواها، وبأنها مزيفة وغير حقيقية على الإطلاق لكونها تعبّر بطريقة غير مباشرة عن خلل واضطراب في التعاطف، وأدنى أساسيات التواصل الإنساني بين الأفراد. تحيل هذه التشكيكات حول الأحداث المكونة لهكذا نوع من السرديات التساؤل عن المعنى الجوهري للحقيقة. ما هي الحقيقة هنا؟ الموت أم الحياة؟ وهل الموت في المشهد يكمن في الجسد الهامد فقط؟
موت النجوم في الكون
يعيدنا سؤال الموت إلى أساسيات وجودنا وكينونتنا في العالم، إلى الكون والفضاء الخارجي المجهول. حيث تبدو نظرية “موت النجوم” مثيرة للاهتمام أكثر من غيرها لارتباطها بوجودنا ككائنات “حية”، وتشكل الأرض ذاتها، في النهاية ذراتنا وأجسادنا، نتاج حي لمخلفات نجم انهار نحو جوفه ومات منذ ملايين السنين في سديم غير معروف لنا.
يعيدنا سؤال الموت إلى أساسيات وجودنا وكينونتنا في العالم، إلى الكون والفضاء الخارجي المجهول
يبدو موت النجوم شاعريا أكثر من كونه نظرية بحثية، على الرغم من الدراسات الهائلة في تفسير أسرار هذه الظاهرة الكونية والتي تبدو في أكثرها ساحرة وآسرة. في نقطة ما، كأننا نشبه النجوم في موتها، يصل النجم في مرحلة من حياته إلى نقطة لا عودة فيها، تتضاءل كتلته ويتقلص حجمه كجسد كائن حي في مراحله الأخيرة، يبرد جوفه كأنه جثة، بسبب ذلك ينهار توازن المواد والطاقات التي تدور حول مداره إلى داخل اللب، بعدها يحصل الانفجار (المستعر الأعظم) يتلاشى فيه الشكل المنضبط للنجم لتتحول عملية موته إلى طيف سديمي من الإضاءات المتفاوتة لونيا، غارقا بعدها في الظلام الدامس للكون إلا من بريق ضئيل يكاد يختفي.
إذا لا موت في الكون، بل إعادة تدوير مستمرة ومتغيرة للأشكال والوضعيات، يتداخل فيه الزمان والمكان إلى أبعاد لا نهاية من التكوين والخلق. يذكرنا “المستعر الأعظم” بمحاولات “أنتونان آرتو” فهم ذاته والألم المرافق للوجود والعدم:
“ليتنا نستطيع أن نتذوق عدمنا، ليتنا نستطيع أن نستريح في عدمنا على ألا يكون هذا العدم أحد أنواع الوجود لكن ألا يكون الموت تماما. إنه لأمر قاس ألا نعود موجودين، أن نكف عن الوجود في شيء ما. الألم الحقيقي هو أن نشعر بفكرنا يقتل في داخلنا. لكن الفكر كالنقطة ليس بالتأكيد عذابا. حتى أني لم أعد أهتم بالحياة لكني أحمل في داخلي كل شهية الكائن ودغدغته الملحين. لم أعد مشغولا إلا بأمر واحد، أن أعيد صياغة ذاتي”.
نقلاً عن موقع “الحرة”