الشخصيات الرئيسة والثانوية في رواية «عذبة» لصبحي فحماوي
النشرة الدولية –
عرّف «مجدي وهبه» مصطلح الشخصية بقوله: إن الشخصية هي «أحد الأفراد الخيالين أو الواقعيين الذين تدور حولهم أحداث القصة أو المسرحية»(2).
فالشخصية هي كل من له دور في أحداث الرواية سلباً أو إيجاباً، والذي لا يشارك في أدوار معينة، يكون جزءاً من الوصف.
ولقد جسّد صبحي فحماوي من خلال شخصياته أحوال وطنه، وهمّ شعبه، إذ عبّر بشخوصه «عن أفكاره ومبادئه وآماله هو شخصياً، والتي يجسدها تعبيراً عن آمال شعب برمته»(4). فكانت الشخصيات في الروايات متنوعة ومختلفة؛ فهناك الشخصية الإيجابية والوطنية، والشخصية السلبية، وشخصيات يهودية إسرائيلية وإنْ لم تظهر بشكل وافٍ، ما عدا في روايته»صديقتي اليهودية»، إلا أَن الاحتلال وتصرفاته الهمجية كانت في كل أجواء الرواية.. وتُعد الرواية من الأدب الواقعي؛ فالشخصيات واقعية، ومعبّرة عن شعب تحت الاحتلال، «ومجسّدة للواقع الفلسطيني الممزّق بصورة حادة، كل منها يمثّل جيلاً برمته، وتتحرّك كل شخصية على حدة، … ينطلق من خلالها كل واحد عبر ماضيه وحاضره، والمستقبل الذي يحمل آماله بين ضلوعه، من أجل إيجاد حياة جديدة لشعب بأكمله»(5).
ومن هذه الشخصيات الرئيسة:
«عماد» والرجوع إلى حضن الحبيبة (الوطن)
صوّر الروائي الشخصيات بآلامها وطموحاتها، وهذه الشخصية حاول فيها الروائي أنْ يجد «دور ثوري للمثقف في الرواية، لكي يدافعوا بشكل غير مباشر عن دورهم في حركة النضال الوطني الفلسطيني»(6).
إِنَّ تجربة اغتراب عماد، هي تجربة نفسية، تأخذ موقف عدم القبول بالواقع، هذه التجربة تولد عادة من «الإحساس أن هوّة فسيحة تفصل عالم الواقع عن عالم المثال الذي يصبو إليه الفرد. وتزداد مشاعر عدم الرضى والرفض وما يرافقها من غضب ونفور ويأس وقلق، وبازدياد الشعور باتساع هذه الهوّة»(7). فالمغترب يعيش في صراع مع مجتمعه، ويرفض الركائز التي يقوم عليها من اتجاهات ومنطلقات وطرق حياة، وبهذا «فقد يغترب الإنسان عن المجتمع كله»(8).
إن الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي كان يرزح تحتها اللاجئون، تشعرهم بالعقم والعجز، وإن لا مفر بالعيش في ظل الهزائم، إلا أن غالبية شخصيات الرواية ترفض الواقع، وتثور وتتمرد عليها، فمنهم من ينجح، ومنهم من يسقط في هاوية سحيقة.
وسنرى كيف يغرق عماد في وحل الاغتراب، ومحاولاته التي لا تفتر في النهوض بنفسه، لأن «عذبة» ولا شك بانتظاره.
هو الراوي الرئيس، يعرف كل شخصيات الرواية، وقصصها العلنية والسرية، ويدخل إلى أدق التفاصيل المتعلقة بالشخصيات، وهو الشخصية التي اختبأ خلفها الروائي، ليسرد لنا حكاية ضياع فلسطين، وتشرد أهلها، وتيه بعضهم في البلاد العربية، وإرادة البعض الآخر التي تكسر الصخر!
وكان حبه للتعليم أقوى من الظروف، فاستمر في المدرسة، وتخرج من الثانوية، وسافر إلى مصر للدراسة، ودرس في كلية المعلمين، بجامعة جمال عبد الناصر. ويتطرق إلى نكسة حزيران 1967م، والهزيمة الساحقة للعرب ولعبد الناصر شخصياً، ونهوض عبد الناصر بمصر كما نهض هو بها، عاد جمال عبد الناصر، وقال مخاطباً جماهير مصر والأمة العربية: «لا تحصل هزيمة عندما تُحتل أرض، ولكن الهزيمة تتأكد عندما يستسلم الشعب، ونحن لم نستسلم، ولن نستسلم، ولذلك فنحن لم ننهزم» (ص164). وهكذا رجعت روح المقاومة للشعب العربي، وقامت حرب الاستنزاف التي أنهكت العدو، ولا يزال الشعب الفلسطيني يقاوم.
أنهى دراسته، ووفق بالتعاقد مع بعثة عربية للتدريس في ولاية صحرائستان، ويصف لعذبة رحلته وحياته في تلك البلاد الحارة.
عيّن في مدرسة ابتدائية طينية وسط العاصمة، يعلم فيها اللغة العربية. وخلال شهور من تواجده اشتاق لرؤية امرأة (وهو لا يعشق سوى عذبة)، يقول: «ولكنني في هذه المدينة المتصحِّرة، رجل محتاج من ناحية إنسانية إلى مشاهدة وجه امرأة، كي أشعر أنني ابن آدم! إنسان طبيعي، ولست وحشاً كاسراً تخافه كل نساء المدينة! ولكنهم أخفوا عني كل وجوه النساء، خوفاً من أَنْ افترسهن، أو أنْ أنهش لحومهن! كنت أتحرك في مدينة أنصار 330، فأراها موحشة مقفرة. وأشعر أنني داخل سجن عظيم مترامي الأطراف» (ص 172).
ويحدثها عن غرفته الصغيرة التي عاش فيها معاناة الغربة، فمع قدوم الصيف، ومع حلاوة بلح النخيل، تصبح غرفته مليئة بالذباب الذي يبحث عن مكان ظليل في عز لهيب الحر، الذباب الذي لا يمل من الطرد، ويشاركهم الطعام. وعند الطعام لا حديث لزملائه الفلسطينيين إلا عن المعارك التي لا تنتهي، التي يعيشها الفلسطينيون، فخبزهم دائماً مبلول بالدموع والدم. وتمر السنون، ويكبر الألم، وينمو الشقاء، ولا سلوى له سوى ذكرياته الطفولية، لتكون صورة عذبة هي الواحة وسط صحراء لاهبة لا ترحم.
وصل إلى فلسطين، واستقل سيارة أجرة صغيرة من العفولة، «مروراً بوادي الملح، باتجاه أم الفحم، وقبل وصولها عرجت إلى اليمين، وصعدت جبال الكرمل، وغرقت في غاباتها الداكنة الخضرة، حيث مرت على آثار قرية أم الزينات المهبطة جهة اليمين، فعبقت روائح الصنوبر والبلوط والسنديان أنفه فأنعشت رئتيه، واستمتع بمشاهدة تربة أرضها الحمراء، التي لا يختلف لونها كثيراً عن الحناء الذي يخضِّب أيدي صبايا الريف الطاهرات، ودغدغت أعصابه، فاسترخى في جلسته وانتشى برائحة الوطن. دخلت السيارة قرية دالية الكرمل…» (ص206).
«انتبه إلى السائق، وقال له: هل تستطيع تخيل شعوري وأنا أرجع إلى وطني بعد خمس وأربعين سنة. وكمية الذكريات والألم الذي أحمله؟
بكى عماد لذكريات لن تعود، وطلب من السائق أن يقود سيارته في شوارع حيفا الرئيسة، يميناً وشمالاً لبعض الوقت، فهو يبحث عن رائحة البحر المتدفقة من بين البيوت القديمة، فمرت السيارة بـ»حارة الحليصة، وشارع الملوك، ووادي النسناس، ووادي الصليب، حتى وصل إلى حواسة شرقاً، وكانت في المدى تقبع قرى شفا عمرو وطمرة شمالاً، وجهة الشرق تجلس صفورية والرينة على واجهة جبال البطوف، وبعدهما تعتلي الناصرة عرشها، فتتوّج على المدى البعيد! عاد السائق باتجاه البحر، ومرَّ من تحت جسر الشل، فشاهد «البور»، واستمرت السيارة منطلقة نحو غرب حيفا، باتجاه الطيرة. وعلى شاطئ البحر المتوسط، حيث بيارات الموز والبرتقال المحتمية بين رطوبة البحر من الغرب، وغابات السنديان، والصنوبر من الشرق، وجبل الكرمل الباسط نفوذه من علٍ» (ص208).
«يتمعّن عماد بالمناظر الخلابة، والأمكنة الحميمية، ويحس بالذكريات تتقافز في قلبه، ويشعر «أنه مسطول بسبب الدخول في اللامعقول» (ص207).
الشخصيات الثانوية في رواية «عذبة»
الشخصيات الثانوية الإيجابية
(الشهيد الحاج حسن)
رجل مكافح، بدأ العمل وهو في سن الطفولة في دكان الحاج جمال في يافا، وهو يعشق المدنية، ويقول عنها: يافا «معطرة برائحة زهر البرتقال، مغسولة بأمواج البحر» (ص17)، ويعشق الحياة حتى أنه حضر بصحبة الحاج جمال حفل المغنية أم كلثوم، الذي أحيته في سينما الحمراء.
ونظراً لأخلاقه العالية، تزوج من ابنة معلمه وأنجب منها الأولاد والبنات، وكان لنشاطه وتفانيه في العمل أَنْ أصبح شريكاً في الدكان، فقد اعتبره الحاج جمال الابن الذي لم ينجبه، ومع مرور الوقت قويت تجارته، فوسّع باب الدكان إلى ثلاثة أبواب، وبعد وفاة عمه، أخذ ينفق على عائلته وعدَّها جزءاً من عائلته الشخصية.
كان يمتاز بطيبة القلب والبساطة وحسن النية، لذا في السادس عشر من حزيران للعام ستة وأربعين وتسعمائة والف، دخل أحدهم إلى دكانه، وهو يحمل كرتونة مغلقة، وقال له: «أرجوك يا (خاج)، تخلي هذا الكيس أمانة عندك، (لخين) ما أرجع، أريد (أروخ) مشوار صغير وأرجع آخذه» (ص17).
وفي وقت ذروة البيع انفجر اللغم، وقتل وجرح العشرات، وتوالت الانفجارات في الأسواق وكان خلفها منظمة «اتسل» الصهيونية الإرهابية.
شخصية الأب «منذر» الإيجابية الثانوية، والخوف من المستقبل
لم ينتظر الأب منذر حتى يأكله الجوع وأطفاله في المعسكر، بل في اليوم التالي، أحضر زنبيل عجوة، وتنكة مملوءة بدبس التمر الأشقر، وصنع خيمة هرمية من قش الذرة وكتب عليها (دكان معسكر 7)، ووسع تجارته، وأخذ يجلب الطحين والقمح من قرية (أنصار 8). كان قويّاً، «متحدثاً لبقاً، ومُعلماً لمن هم معه» (ص49).
وصاحب مواقف في الملمات، جمع أولاده وقال لهم: «لا تحزنوا وأنا بينكم، وإذا خسرنا الجولة الأولى في الحرب، فلن نخسر عقولنا وصحتنا» (ص49)، وطالبهم أنْ يكونوا أقوياء لمجابهة الأحداث الناشئة.
وعندما يتساءل عماد عن قسوة أبيه، تدافع الأم عنه، مستذكرة الأيام الخوالي، قائلة: «كان أبوكم في أم الزينات يلاعبكم ويدللكم، ويحملك على ظهره أو فوق كتفيه، وكان لا يأتي من ميناء حيفا، إلا وهو يضحك، ومعه علبة من راحة الحلقوم، يلف حبة حلوى منها بخرقة قماش بيضاء نظيفة، ثم يضعها في فمك وأنت طفل رضيع…» (ص129).
وهنا يتدخل عنان قائلاً: «ولماذا أصبح مقتراً، ولا نشعر بحنانه!» فقالت الأم صفاء، محزونة الوجه: «الدنيا تغيرت يا ولدي! كان لنا وطن، فيه بيت من حجر، وبقر هولندي، ودجاج وحمام وأرانب، ومزرعة الظهرة حوالي مئتي دونم، مُشَجّرة بالزيتون وكلّ أشجار الفاكهة التي نحلم بها، ولم يكن شيئاً يهم أباكم. كان يدللنا ويلاعبنا، ويضحك ويلعب معنا، ولكن الصدمة التي أكلناها في عيشتنا، غيرت مفاهيمه، فتغضّن وجهه كالتفاحة الذابلة، وصار من شدّة الحزن والخوف، يحسبها بالتعريفة! قد يكون السبب أنه يخشى علينا من هجرة جديدة!» (ص115).
مثلت الشخصيات في الرواية أداة مهمة استعان بها الكاتب في «تجسيد المكان وإبراز خصائصه، من خلال ما تحمله الشخصية من علامات دالة، تستمدها من عمق المكان والبيئة والقيم…»(11).
* الشخصيات الثانوية السلبية:
(الشاويش أبو شرين، والعريف أبو زكي في مخفر الشرطة)
من الشخصيات الثانوية التي لعبت دورها في الرواية، شخصية الشاويش (أبو شَرّين) رئيس مخفر معسكر أنصار 13، والذي ظهر كشخصية مُستعبِدة عند سكان المعسكر نظراً لسطوته وجبروته. فلا «يستطيع أحد ذكر اسمه دون أن يكيل له المديح، لأنَّ أبو زكي تحت أمره ليذيق المشاغبين الويل والثبور. فإذا تحدث أحد بالسياسية، أو استمع إلى إذاعة عربية معادية، كان المتهم يختفي وراء القضبان» (ص96) ليأتي أهله والمختار يستسمحون (أبو شرّين)، ويضطرون لعزيمته، فكان يتنقّل بفخامة من غداء إلى عشاء، يتصدر المجلس، وكلمته لا ترد ولا تناقش، الناس يجلسون أمامه، وصاحب البيت يهلِّي ويرحِّب: «صدر البيت لك يا شاويش أبو شرّين». فيبقى أبو شرين متجهماً، لا يرد على الترحيب به، وكأن الأمر أمر، وليس كرماً من الداعي! وكانت عصاه الأمنية تجلس بجواره! وحين يتحدث، تتحدث عصاه معه!
أما أبو زكي فهو عريف في المخفر، وسوط الشاويش، فلقد ظهر كشخصية بشعة وسادية، يتعامل بقسوة مبالغ فيها مع اللاجئين، فكان بسهوله يمد يده على «الكايش»، «ويفكُّه عن كرشه المنتفخ لكثرة العزائم والولائم، ويتفنن بالضرب» (ص94).
وكان يجد متعة في ضرب اللاجئين، ويتحين كل فرصة لينهال عليهم ضرباً، وبخاصة بداية كل شهر عند استلام الحصص التموينية، حيث يكون الناس متجمعين بالمئات، وحتى عندما كان يحضر رجلان إلى المخفر؛ يشتكي أحدهما على الآخر، كان أبو زكي لا إراديّاً يحل الحزام العريض، ويأخذ بضرب المشتكى عليه، قبل أنْ ينطق بكلمة، ويقول: «هذه فاتحة تحقيق، لتسخين الموقف. بادرة إثبات حسن نوايا، وإثبات بأن دخول المخفر ليس لعبة، أو للاستراحة!» (ص94).
يصف الراوي (أبو مقصود) بأنه «رجل طويل ونحيل، مثل حبل المشنقة، في الخمسين من عمره، صامت بطبعه» (ص98)، يعمل خادماً في المغفر، يكنس ويمسح، ويعمل الشاي والقهوة لموظفي المغفر، ووجد له الشاويش عملاً آخر، فالقوانين لا تسمح بدخول بيوت المواطنين ليلاً لاستدعاء أحدهم، إلا بمذكرة من المُدَّعي العام، أَو من الحاكم الإداري، ولا يكون الدخول إِلا برفقة مختار الحي… لذا تفتق عقل (أبو شرّين) الذي يحترم القانون، على فكرة أنه لا داعي لمذكرات جلب وإحضار، فأبو مقصود بصفته لاجىء من سكان المعسكر، يستطيع دخول البيوت ليلاً من دون مشاكل، وجلب المشتبه به… وهو لا يتقاضى أجراً لهذا العمل، بل يكتفي ببقايا الطعام الذي يخلفه الشاويش وجماعته عند العزائم، أو فضلات من أغذية مؤن وكالة الغوث، التي توزع شهريّاً، فيأخذ أبو مقصود حاجته منها فوق مستحقاته الرسمية.