المشاهد الفنية تتشكل عبر شيفرة ملغومة بالألغاز
ميموزا العراوي –
النشرة الدولية –
عرف الفن تاريخيا فنانين جعلوا من لوحاتهم أشبه بأحاجي بصرية مُحكمة التركيب أو شديدة الغموض أرادوا بها إما القفز إلى ما وراء جدار الزمن نحو العالمية (بغض النظر عن تمكنهم من ذلك أو عدم تمكنهم)، أو إثارة اهتمام وفضول الناظر إليها، كما جعلوا منها مساحات مفتوحة على التأويل الذي من شأنه أن يرد معنى العمل الفني إلى حادثة أو فكرة أخرى معينة لم يقصد الفنان التعبير عنها بالضرورة.
تلك الأعمال وصفت بالتفاعلية، لأنها تتطلب تدخل الناظر إليها كي يستخرج منها معنى يخصه وحده ويعنيه دون سائر البشر. لكنْ هناك أعمال من نوع آخر يمكن اعتبارها توصيفية وقافزة تلقائيا فوق جدار الزمن نحو المستقبل؛ أعمال قدّمها فنانون دون أن يقصدوا بها حدثا معينا رأوه أو علموا به بل أنجزوها وفق حساسية عميقة جعلتهم قادرين على الاستشراف واختصار مشهد شامل وحالة عامة استفحلت في البيئة التي يعيشون فيها.
استباق بصري
يمكن اعتبار هذه الأعمال نوعا من التكثيف البصري الناتج عن دمج الماضي بالحاضر وبالمستقبل.
من تلك الأعمال ما نشرت صورته على صفحتها الفيسبوكية الفنانة والنحاتة اللبنانية سمر مغربل. العمل هو مُصغر عن هيكل بنائي ضخم لونه بلون الرمل الضارب إلى الصفرة ويشبه إلى حد غريب مبنى إهراءات القمح الذي دُمّر إثر انفجار مرفأ بيروت.
نشرت الفنانة إلى جانب صورة العمل هذه الكلمات “يا هل ترى هل كان هذا المُنشأ الذي نحته عندما كنت في الأرجنتين سنة 2016 يعود إلى مبنى إهراءات القمح الذي دمّر؟”.
قد لا يجد الكثيرون في صورة المنحوتة ولا في كلام الفنانة أي همية كبرى. ولكن حتما سيتغيّر موقفهم إن علموا بأن الفنانة في مجمل أعمالها
الفنية النحتية والتجهيزية تهجس بفكرة المنشآت التي نخرها الزمن أو كانت ضحية جشع أصحاب المال أو الاشتباكات المسلحة؛ منشآت غالبا ما تميزت بجمالية ما، مثل مبنى إهراءات القمح قبل دماره (وللمفارقة بعد دماره أيضا).
وما يجدر ذكره في هذا السياق أن الفنانة سمر مغربل كانت قد قدّمت معرضا في عام 2015 بعنوان “من دون أثر”، ضم أعمالا نحتية سيراميكية لا يتعدى حجم ارتفاع
كل منها أكثر من 45 سنتمترا، وهي ليست إلاّ هياكل لبيوت نخرها الزمن أو حوادث الحرب وسيصار إلى تدميرها.
أما الفنانة نجلاء حبيش فكانت قد رسمت لوحة تعود أيضا إلى سنة 2015، تبدو فيها بيروت في مشهد درامي يوثّق فعل احتراق المدينة حتى الرماد والنهوض منه في الآن ذاته. وقد أطلقت الفنانة على هذه اللوحة حينها عنوان “بيروت تنهض من بين الرماد”.
كما في عمل سمر مغربل نستشعر في هذه اللوحة استشرافا فنيا يستحضر من المستقبل ما سوف يحدث لبيروت بعد عدة سنوات، وهي التي تعرّضت، آخر مرة، لضربات تدميرية في حرب يوليو الإسرائلية سنة 2006.
رسمت الفنانة اللبنانية لوحات جديدة من وحي ما حدث مؤخرا في بيروت وبدت هذه الأعمال كأنها استكمال أو استرسال لتفاصيل لوحة 2015.
شبه اعتذار
أخيرا وليس آخرا، نذكر الفنان زياد توبة ومجموعة من الرسومات نشرها على صفحته الفيسبوكية، وأرفقها بشبه اعتذار عن كونه وجد شبها عظيما بين ما رسمه منذ سنوات وما حدث في بيروت.
لم يكن اعتذاره في محله، لأن المجموعة لكل من اطلع عليها هي رسومات تكاد تكون سردا ليس فقط توصيفيا لحادثة الانفجار، بل “للأجواء” التي سمحت بحدوث الانفجار وحقّقت ما نتج عنه.
كتب زياد توبة، في إشارة إلى تاريخ 2015، “منذ حوالي سبع سنوات وفي فترة استمرت لثلاث سنوات رسمت بيروت بالحبر الصيني مثل ما كنت أراها وأكره رؤيتها: مساحة للتشوّهات المتراكمة وعلى جميع الأصعدة. رسمتها وهي مدينة منكوبة.. منذ وقت الانفجار وأنا أستعيد في ذهني تلك الصور وأقول في نفسي كم تشبه بيروت اليوم بما تشكّل في رأسي منذ سنوات. ليس توقعا ولا ذكاء مني ولا أي شيء آخر.. اليوم فقط تطابق ما كنت أشعر به منذ سنوات مع ما أرى اليوم.. هذه الصور هي جزء من مجموعة كبيرة أعمل عليها”.
إن وجد هؤلاء الفنانون صدى لأعمالهم في كارثة بيروت اليوم، فربما لأنها مرتبطة وإن لا شعوريا بما حدث سنة 2015.
نسترسل بأفكارنا ونقول، ومن وحي ما قاله الفنان زياد توبة بأن رسوماته التي أنتجها قبل عدة سنوات ليست بتجليات نبوءة أو ادعاء بالمعرفة، بل إن رسوماته هو وغيره من الفنانين الذين استشرفت أعمالهم الكارثة البيروتية قد تكون نتيجة حتمية لما حدث سنة 2015. فتلك السنة كانت أيضا سنة محمومة وحاسمة بالنسبة إلى لبنان وبيروت.
سنة تحرّك فيها عصب ثورة تحت شعار خارق وهو “طلعت ريحتكن” تجاه الطبقة الفاسدة التي تتوالد من ذاتها وتحكم البلاد منذ عشرات السنين. عصب ثورة كانت على توتّره تُعقد الكثير من الآمال. لكن كان ذلك قبل أن ينهار شعار “طلعت ريحتكن” باعثا بانهياره قوة جديدة لتسلط الفساد.
انهار الشعار كما انهار صرح إهراءات القمح، فكانت نتائج انهياره دامية على مستوى الأفكار والمبادئ والأحلام الوطنية، بقدر ما كان على مستوى الخسائر في الأرواح وأعداد الجرحى والمفقودين.