الوكيل يتناول الحالة الثقافية للواقع الافتراضي على نحو ما يتجلى في الإبداع الأدبي
النشرة الدولية –
تشهد الحضارة الإنسانية حالة تحول من الشفاهية إلى الكتابية إلى الرقمية، وهي حالة لا يمكن أن تكون مفصلية باترة؛ إذ تمتد عبر الزمن حتى تصل إلى هيمنة أدوات اتصالية بعينها تترك أثرها المباشر في طرائق الإبداع وتجلياته. وقد دأب المبدعون على التمرد على الأشكال التقليدية، ومن ثم حاولوا كسر النمطية في الإبداع. ومن مظاهر ذلك التمرد على الطبيعة الخطية للكتابة حيث الحركة من نقطة في بداية النص إلى نقطة محددة في نهايته، وكذلك تحرير المتلقي من سلطة النص والمؤلف.
هذا ما يؤكده ويشتغل عليه الناقد د.سعيد الوكيل في كتابه “من النص الرقمي إلى نص الحداثة الرقمية” الصادر عن مؤسسة أروقة للنشر، متناولا الحالة الثقافية للواقع الافتراضي على نحو ما يتجلى في الإبداع الأدبي على الإنترنت، ومحللا لروايتي ظلال الواحد، وشات لمحمد سناجلة وبحثه في رقميتهما من عدمها، إلى غير هذه من الأسباب الكثيرة، كما يحلل رواية “في كل أسبوع يوم جمعة” لإبراهيم عبدالمجيد وعددا من الكتب المتعلقة بالموضوع ككتاب الحداثة الرقمية للناقد الثقافي البريطاني آلان كيربي، حيث “يتأمل الراهن على مستوى التنظير، وعلى مستوى المنجز الإبداعي. ولعل التأمل في هذا السياق يدعونا إلى عدم الانزلاق إلى القول بأن كتابة النصوص المترابطة أو التفاعلية هي مزية في حد ذاتها، بل نتحرك صوب القول بتفاوت النصوص بحسب أقدار مواهب مبدعيها”.
الكتاب وفقا للوكيل “له غايات تتعلق بالرصد والتأمل والتنبؤ، لكنه يسعى كذلك إلى تحليل الوشائج بين النص والرؤية، وصولا إلى مدارج التأويل؛ فالعيون تتطلع في هذا السياق الإبداعي الجديد إلى تلك الأعمال الأدبية التي تدمج الإمكانات الرقمية بوصفها جزءا من البنية الدالة، وتوسع من مدى التعبير الأدبي. إننا نتطلع إلى الكشف للمبدعين عن الكثير مما يخبئه لهم النص المترابط بتجلياته المتنوعة”.
وأوضح أن النص التشعبي يتحقق من خلال الحاسوب إبداعا وتلقيا، ويقف في مقابل النص المطبوع من حيث إن قراءته لا تخضع فحسب للقراءة الخطية التي تبدأ من نقطة محددة وتنتهي بأخرى، بل يتكون من مجموعة من العُقَد التي يتصل بعضها ببعض بوساطة روابط مرئية، ومن ثم يتم الانتقال من جزئية إلى أخرى عن طريق تنشيط الروابط، وبذا نتحرك في النص على النحو الذي نريد. وقد ظهر هذا المفهوم عام 1965 على يد تيودور هولم نيلسون الذي أنجز مع فان دام في جامعة براون أول نظام مكتبي حاسوبي يستثمر ذلك المفهوم. ولا يعتمد النص التشعبي على اللغة المكتوبة فحسب بل يستثمر كذلك الوسائط التفاعلية الأخرى كالصورة والصوت والمشهد السينمائي”.
وكون أن اعتماد النص التفاعلي على الترابط يجعل له ملامح بلاغية خاصة، وهذا يتضح من خلال مقارنته بالنص الأدبي الخطي، من حيث عناصر دائرة التواصل، وخصوصا ما نراه من اختلاف واضح في طبيعة المتلقي ودوره، وفي طبيعة قناة التوصيل، وكذلك في مادة التواصل اللغوي ذاتها. درس الوكيل تفاصيل كثيرة تتعلق بعلاقة الكاتب بالتقنية وآثار تكنولوجيا الاتصال، وطبيعة العلاقة الجديدة بين شبكة الاتصالات والإيديولوجيا، والعلاقة بين منطق قراءة النص التشعبي وكتابته، مركزا على التفاعل بوصفه مناط بلاغة النص التشعبي، كما تطرق إلى أنواع النص التشعبي وطرائق القراءة، وعرج على بعض النصوص الأدبية العربية على الإنترنت لتأمل ما أنجزته في بلاغة الأدب التفاعلي، مع التركيز على الرواية.
ورأى أن تأسيس النص التشعبي لم يتم في إطار تطورات تكنولوجية فرضت نفسها وحسب، بل تم تأسيسه في إطار رؤية كلية للعالم تربط كل عناصره الطبيعية وغير الطبيعية “الآلية”؛ فالنص التشعبي نشأ في حضن الثورة السيبرنطيقية التي لاحت بداياتها منذ عام 1940. وهذه الفكرة جوهرية لأنها ستكشف لنا أن التحول من النص الكتابي “على مستوى الإبداع” ليس متعسفا بل يرتبط على نحو وثيق برؤية العالم. ولكن ما السيبرنطيقا؟ إن السيبرنطيقا التي تعني التحكم باستخدام البعد المعلوماتي تولدت من فكرة جوهرية تكشف عن نوع جديد من العلاقات بين العناصر المتفاعلة. كانت العلاقة القديمة تقوم على أساس خطي يرى أن السبب أ يؤدي إلى النتيجة ب، لكن حصيلة التفكير والتجريب أديا إلى أن تستبدل بهذه العلاقة علاقة أخرى تنهض على “السببية الدورية” القائمة على أساس “الارتداد السلبي”. لكن ظروف الحرب لم تسمح بتعميق هذه الفكرة. أبرز وينر أنه منذ القدم كان الاعتقاد السائد هو أن السبب يولِّد النتيجة، بينما في “السببية الدورية” نجد أن العنصرين “أ” و”ب” هما معا وفي آن واحد سبب ونتيجة لكل واحد منهما. فليست “أ” هي التي تؤثر في “ب”، ولكن “ب” بدورها تؤثر رجوعا “ارتداد سلبي”. إن “أ” لا يمكنها أن تؤثر في “ب ” بدون أن تتأثر هي أيضا. وتبين لمختلف المختصين أن فكرة “السببية الدورية” يمكن تطبيقها على الكائنات المختلفة: الحية وغير الحية. وبيَّن وينر أن آليات الانتظام الذاتي يمكن أن توجد عند الإنسان والآلة سواء بسواء، مقترحا بناء على ذلك ربط آلية نظريات آليات التحكم في الآلة والبيولوجيا والعلوم الإنسانية والنفسية والاجتماعية بموضوعة واحدة هي “التواصل”.
وأشار إلى أن ظهور أنواع مختلفة للنص التشعبي يدعو بالضرورة إلى ممارسة أشكال جديدة من القراءة. فمن أنواع النص التشعبي نمط بسيط يضم النص التوريقي والشجري والنجمي، وكل منها نوع يقترب من الكتاب المطبوع؛ فهو “يخضع لبنية شبه خطية ولمسارات مضبوطة ومحدودة، كما أن الروابط فيه محدودة ومقيدة بقيود دلالية أو منطقية أو سببية أو ما شاكل ذلك من العلاقات التي تتحدد بواسطتها الصلات بين العقد”. أما النوع الآخر فإنه مركِّب، ومنه النص التوليفي والجدولي والشبكي، وكل منها يعد “أبعد ما يكون عن الكتاب المطبوع وعلى كافة المستويات، لذلك يمكن اعتباره النص الذي تتحقق فيه السمات الجوهرية للنص الإلكتروني الجدير بهذه الصفة. فعدد روابطه لا حد له، وهو منفتح على كل مكوناته، ويسمح للقارئ بأن يتفاعل معه بصورة لا نجدها في أي نص آخر. وهذا النمط المركَّب هو المقصود “ضمنا أو مباشرة” بالنص المترابط في مختلف الدراسات أو الأبحاث التي ترصده أو تنظّر له”.
ورأى الوكيل أن الرواية التفاعلية تعتمد على الاختيار الحر للقارئ، وعلى مشاركته المؤثرة، حيث يكون من حقه أن يختار ما سيحدث لاحقا، وأن يخلق سلسلة من الإمكانات المختلفة للأحداث ونهايات السرد. وهذا يعني أن القارئ الواحد يمكن أن يقرأ الرواية عدة مرات بحبكات مختلفة. وهنا يظهر مصطلح “المتفاعل” بديلا عن القارئ، حيث يوجه الشخصيات تبعا لرؤيته.
ولفت إلى أن ظهور النص التشعبي بأنواعه المتعددة يدعو إلى إمكان الحديث عن “الأدب التفاعلي” بوصفه “جنسا جديدا في الإبداع الأدبي، يتجسد من خلال الرواية التفاعلية أو المسرح التفاعلي وسواهما من الأنواع الأدبية الجديدة.
وقال “يتحقق التفاعل بوضوح في الأعمال الدرامية التفاعلية كما فى مشروع يُدْعَى الدراما التشعبية، فبمقدورك اختيار مجموعة الأفراد التى تفضل اتباعها. وعلى نحو يتعارض مع القواعد الأرسطية، تضُمُّ هذه الدراما أحداثا متداخلة، ويمكنك التنقل منْ حدث إلى آخر، مثلما تغيّر القنوات وأنت تشاهد التلفزيون. أما الشيء الذى يبدو اليوم أن التفاعلية قادرة على تقديمه للأدب فهو، فى المقام الأول، التمكين من حرية اللعب، حتى يكون بمقدورك أن تغيّر إما وجهة نظرك أو تسلسل الأحداث. ومن الواضح أن فى هذا قدرا من الحرية، ولكن هذه الحرية ستظل دائما مقتصرة على حرية اللعب. فنظام كهذا يُجَرّدُ الأدب من قيمته ومغزاه: إدراك أننا لا نستطيع أن نجعل عجلة القدر تدور فى الاتجاه العكسي، وأن ما حدث لا يمكن إلغاء حدوثه. يكفى أن تتخيل أن أحدا قد أجلس هاملت على العرش منذ البداية تماما. أو مكـَّن أوديب من معرفة أبيه الحقيقي. إن اللاخطية ليست السبب الوحيد فى إفساد الحبكة؛ فاللاتحديد المسبق سبب آخر من أسباب ذلك، وحتى اليوم ليس لدى الأدب الإلكتروني ما يطرحه عوضا عن ذلك”.
ولاحظ الوكيل أن اكتشاف الجذور الكامنة في التراث العربي يمكن أن يعد تمهيدا لإبداع تفاعلي، كما يؤدي إلى تغيير بعض مفاهيمنا حول تشذر الشعر القديم وحول بعض الإبداعات التي شغلت بالتشكيل البصري وعدّها بعض الباحثين إهدارًا للشعرية. إن هناك أزمة حقيقية في التواصل تستدعي استلهام مفهوم التفاعل في ظل ترقب إنتاج إبداعات تفاعلية تنهل من التراث وتفيد من الطبيعة الخاصة للإبداع التفاعلي، من حيث إمكان الإفادة من مجموعة من المكونات اللفظية وغير اللفظية، لتحقيق صور متعددة من التفاعل بين المبدع والمتلقي، بشرط تحقيق الكفاءة على مستوى كليهما. ومع الإبداع التفاعلي يمكن الحديث عن الفن المتكامل الذي يتجاور فيه الصوت والصورة والحركة؛ “حيث المتلقي جزء أساس من عملية الإبداع، فهو يشارك فيها كمبدع تتحقق إبداعيته من خلال مساهمته في العملية نفسها. لم يبق المتلقي مكتفيا بمتابعة النص بعينه، إنه “يكتب” النص بطريقته الخاصة وهو ينقر على الفأرة ويتحرك في جسد النص وفق اختياراته وإمكاناته، وبذلك يبدع نصه من خلال النص الذي يقرأ “هل نقول الآن بصريح اللفظ: “النص الذي ينتج”؛ لأن لفظة “الإنتاج ” تكتسي هنا وضعا أوضح من السابق. هذا الإبداع التفاعلي هو رهان الإبداع غدا”.
وتساءل عن العلاقة بين تكنيك الكتابة عند المبدع الذي يكتب الرواية الرقمية وإبداعه السابق. هل تعبر الرواية الرقمية عن عالم جديد، أم أن الوسيط الإلكتروني الجديد هو الذي فرض نفسه؟ وقال “علينا أن نميز بين التعبير عن عالم جديد والتعبير بأدوات جديدة. وهل أصبح العالم خاضعا لهيمنة الإنترنت حتى نكون بحاجة ملحة إلى التعبير عنه؟ أم أن وجود وسيط تواصلي جديد هو الذي يوحي إلينا باستخدامه؟
يتسم النص بمعناه التقليدى بالملامح الآتية: له بداية، ونهاية، وترتيب مسبق توضع فيه العناصر الواقعة بين البداية والنهاية. وهذا ما نسميه بالخطية. والقراءة عملية ذهنية بالغة الرقى والتعقيد، نستخدم فيها الكثير من قدراتنا الذهنية، وكل قراءة تستحضر ذكرياتنا عن قراءات سابقة وخبرات أخرى؛ ومن ثم فإننا نجعل من كل نص نقرأه نصا تشعبيا. ولكن علينا أن نفرِّق بين القراءة بوصفها فهْما “فهم العالم، وفهم أنفسنا” والقراءة بوصفها إدراكا حسيا بسيطا. تتضمن كل قراءة نقرأها عنصرا من هذا الإدراك الحسى: تـَعَرُّفُ الحروف والكلمات الموضوعة فى ترتيب محدد مسبقا. ولكن القراءة بوصفها فهما لم تكن قط عملية خطية، أما القراءة بوصفها إدراكا حسيا فمن المحتم أن تظل عملية خطية.
ومن النصوص السردية الحديثة التي استطاعت أن تستلهم الواقع الافتراضي وأن تكتبه خطيا رواية “في كل أسبوع يوم جمعة” لإبراهيم عبدالمجيد. هذه رواية استطاعت أن تخلق عالما جديدا به قدر هائل من الإثارة، والإمتاع الجمالي، لكن جانبا مهما من جوانب نجاحاتها يتمثل في إثارة أسئلة حقيقية حول ذواتنا وعلاقتنا بالآخر وبالعالم، ومن قبل ومن بعد بالبحث عما يمكن أن نطلق عليه “الحقيقة”.