فنانون لبنانيون يهبّون لترميم تحف بيروت المتضررة… سخروا مواهبهم لحماية تراث وجمال عاصمتهم
النشرة الدولية –
كانت الفنانة اللبنانية مايا حسيني المتخصّصة بالزجاج المعشّق تنوي الاعتزال بعد عقدين من العمل في تصميم زجاجيات ملوّنة، لكنها باتت اليوم غارقة تحت وابل من الطلبيات بعد الانفجار الهائل الذي ضرب العاصمة بيروت.
تقول الفنانة البالغة 60 عاما بحزم “لا يجوز ألا أحاول على الأقلّ أن أرمّم ما دمّر”.
وقد تسبب الانفجار الذي وقع في مرفأ بيروت في الرابع من أغسطس بتضرر أعداد لا تحصى من التحف واللوحات والمنحوتات والزجاج والأثاث الفاخر، بعضها توارثته عائلات عبر أجيال، وبعضها الآخر جمعه هواة التحف عبر سنوات وعقود من رحلات حول العالم، ناهيك عما كانت تحويه متاجر للتحف لحقت بها أضرار جسيمة.
يقول الخبير في مجال التحف هشام حشوي “المشكلة الفعليّة تكمن في أنه إضافة إلى رمزية بعض المقتنيات وقيمتها الفنية والحضارية، قد يستحيل عملياً تعويض أصحابها ما يعني خسائر هائلة قد يصعب تحديد حجمها بشكل دقيق”.
وألحق الانفجار أضرارا جسيمة يصعب جبرها بالمتاحف وصالات عروض الفنون. ونشر حساب اليونسكو على تويتر صورا لمعرض فنون قبل وبعد انفجار بيروت، وعلق قائلا “تجسّد المتاحف وصالات عرض الفنون في لبنان شهادة حية على الابتكار المستمر والتنوع، لكن وضعها انفجار بيروت أمام أصعب التحديات التي شهدتها في تاريخها الحديث”.
وجاء في تغريدة اليونسكو “من بيروت إلى شتّى بقاع الأرض.. لمواجهة ما حدث في الـ4 أغسطس 2020، من الضروري أن يعوّل أهل بيروت على التضامن الذي يبديه المجتمع الدولي”.
وكانت أودري أزولاي المديرة العامة لليونسكو، قد أكدت أهمية المحافظة على التراث التاريخي للمنازل والأبنية المتضررة جراء الانفجار، والمساهمة في إعادة إعمارها وحمايتها.
وحسيني هي واحدة من مجموعة فنانين بدأوا تدريجيا بترميم التحف التي شوّهها الانفجار.
في ورشتها الواقعة في ضواحي بيروت، يظهر ما تبقّى من كنيسة تعود إلى القرن التاسع عشر رمّمتها بعد الحرب الأهلية (1975 – 1990)، كومة من المعادن المحطّمة تعلوها قطع قليلة صمدت من الزجاج الملوّن بالأزرق والبرتقالي وضعت في علبة من الكرتون.
تقول حسيني “سبعة مشاريع على الأقلّ من صنعي دُمّرت في الانفجار” ومن بينها مشاهد من الكتاب المقدّس رسمتها على زجاج كنيسة والنوافذ الزجاجية الزاهية بالأصفر والبرتقالي لمتحف سرسق.
وورثت الحسيني عن والدها مهندس الكنائس حب الأيقونات والكاتدرائيات.
وقبل الانفجار، كانت تنوي الاعتزال بعد الانتهاء من صنع زجاج كاتدرائية في الأردن، لكن اليوم “لن أسمح لنفسي بالتوقّف”، بحسب ما تقول الفنانة.
وتختار حسيني وهي تجلس على طاولة عملها قطعة زجاحية ليلكية اللون وتثبّتها بالرصاص اللّين لترميم نافذة مزخرفة بالورود والأوراق لمنزل خاص.
وتقرّ الفنانة “لن أتمكّن من تلبية بعض الطلبيات لمدّة أقلّها سنتان” رغم أنها تستعين بمتدرّبين، لكن عبء العمل لا يزال كبيرا جدا.
وفي ضواحي المرفأ، بدأ العمل لتغطية النوافذ والأبواب في نحو مئة عمارة أثرية قبل حلول الشتاء والمطر.
وقد أعلنت اليونسكو عزمها تنظيم مؤتمر لحشد مئات الملايين من الدولارات اللازمة لأعمال الترميم. لكن بالانتظار، يتدبّر اللبنانيون أمورهم بأنفسهم، مثل غابي معماري المتخصّص في صيانة التحف الفنّية الذي يعرض ترميم اللوحات المتضرّرة بالمجّان.
ويروي أنه قرّر تسخير موهبته في خدمة تراث العاصمة بعد رؤية الشباب ينظّفون شوارع بيروت ويرفعون منها الركام الذي خلّفه الانفجار.
ويقول الفنان البالغ 58 عاما، وهو أستاذ جامعي “إنها قطع يمكن خسارتها بسرعة إن لم يتنبّه المرء للأمر”.
ويعمل في مشغله في بيروت على لوحة من القرن السابع عشر للفنانة الإيطالية إيلينا ريكو تظهر قطّة تنظر بشهيّة إلى سمك نافق، شقّتها شظايا زجاج.
ويقلب لوحة أخرى وهو يضع قفازين في يديه بدأ بتنظيفها لينفض عنها شظايا الزجاج.
وإلى جانبه، عمل للفنانة اللبنانية الراحلة صوفي يراميان تشقّق طلاؤه من جرّاء الانفجار، يقول غابي معماري “لم نكن نتوقّع هذا الكمّ من الاتصالات”.
وراح معماري يقيّم الأضرار في صالات عرض ومنازل خاصة على حدّ سواء.
وفي أحد المنازل، انتشل لوحة بعشرات الآلاف من الدولارات من القمامة ووجد أخرى ملفوفة بالكامل بشريط لاصق.
وكانت صاحبة المنزل قد هرعت إلى المستشفى مع ابنها الذي أصيب إصابة بالغة من جرّاء الانفجار، ولم يدرك من ساعدها على تنظيف البيت قيمة التحفتين.
وحتّى من دون شريط لاصق يعقّد المهمة، تتّسم مهمة الصيانة بالتعقيد إذ تتطلّب ساعات من التحضير قبل لمس التحفة، على حدّ قول معماري.
ويوضح الفنان “في بعض الأحيان، ينبغي تكرار الخطوة عينها مرّات عدّة لأننا لا نملك بكلّ بساطة معدّات كتلك المستخدمة في المتاحف”.
ومن الصعب شراء أجهزة متخصّصة من الخارج، في ظلّ القيود المشددة على التحويلات المصرفية من لبنان الرازح تحت وطأة أزمة اقتصادية هي الأسوأ منذ عقود.
لكن معماري مصمّم على المضي قدما بالاتّكال على مجموعة من الأصدقاء ومعدّات محلية الصنع.
وهو يؤكّد “سنواصل تأدية مهامنا يوما بعد يوما إلى أن تنفد موادنا أو مواردنا”.
وتعهد تحالف دولي لجماعات حماية المتاحف والتراث بملايين من الدولارات من الدعم لرعاية أعمال الترميم الأولية ومحاولات منع المباني المتضررة من الانهيار في الأسابيع والأشهر المقبلة، لكن هذا قد لا يكون كافيا.
وشدد الخبراء على الحاجة إلى التحرك بسرعة لإصلاح الأضرار الجسيمة التي لحقت بتراث المدينة، التي كانت تعرف سابقًا باسم “باريس الشرق الأوسط”.