نجمٌ خارج الأفلاك* يوسف طراد
النشرة الدولية –
كي لا تبقى الحقيقة شاردة عارية، ولكي يليق بها بحر البحث الخاشع لزهو الخلود، جمع عميد الصحافة العربية في استراليا المغفور له الأستاذ بطرس العنداري، سيرة العالِم فيليب سالم في كتاب (فيليب سالم الأنسان. الوطن. العلم.) الذي صدر عن دار النضال عام 2004.
ثلاث ماية وعشرون صفحة بغلافٍ أنيقٍ، ضمّ أربعة فصول حوّت رحلة حياة زاهرة لم تنتهِ. استمرت منذ اِتِّكاء حنين فيليب سالم على باب داره في بطرام الكورة، إلى حينٍ أزلي بذراع دالّة بفخر نحو المجد. مسيرته العلميّة انتزعت المرض من الأيام الهاربة أمام الأقدار. نجحت في شفاء النفس قبل الجسد، تُرجم هذا الشفاء باستمرار الصداقة بين الطبيب والمريض بعد الشفاء، والطبيب وذوي المريض في حال فشل العلاج. هذا تعبير لواضع السيرة عن صاحب السيرة: (لم يرضَ فيليب سالم أن يكون طبيبًا فقط، لأن الأنسان وحدة متكاملة يستحقّ الحياة أولًا).
فيليب سالم طبيب مختّص بعلاج الأورام السرطانية، باحث موضوعي، يؤمن إيمانًا كليًا بالبحث العلمي ويشجّع عليه. قد جاء على لسانه بإحدى محاضراته المدوّنة في هذا الكتاب (إنّ السرطان كناية عن عدّة أمراض وليس مرضًا واحدًا وامكانية الشفاء منه 50 بالمئة وهذا تقدّم هائل) منذ ذلك التاريخ حتى اليوم تحقق تقدّمًا كبيرًا في هذا المجال، وكانت أبحاثه مرتكزًا ثابتًا وتقدّمه في هذا المجال مذهلًا. لأنه كان فهمه عميقًا للتصرّف البيولوجي للخلية السرطانية. يمكن أن يصبح الشفاء من السرطان كلّيًا أو بنسب مرتفعة مستقبلًا، لكن الأبحاث المستقبلية والغوص في هذا العلم، لأجل الحياة والأمل والإنسانية، إذا حقّقت هدفها السامي، وأصبح علاج الأورام السرطانية كعلاج أي مرض عادي، تكون قد ارتكزت على ما وضعه البروفسور سالم بهذا المجال، كما حصل مع العالمين جيمس واطسون وفرانسيس كريك اللذان تمكنا من تحديد الحمض النووي للخلية (دي أن أي)، لكن أعمالهما كانت مبنيّة على أعمال وأبحاث العالمة روزاليندا فرانكلين البريطانية، المرأة التي دخلت قلب العالم ونواة الخلية. فالعِلم استمرار وحلقات في سلسلة مدهشة من العطاء دون ضفاف.
جميع ميداليات الشرف وحفلات التكريم والمناصب التي استحقها بجدارة، لم تنسِ سالم نضوج ملامحه في وطن الأرز وبلدته بطرام، حيث ارتوى من رحيق الروح وجنان الزيتون، ومُسح رجل العلم والتفوّق بزيته الصافي، فكان نجمًا خارج الأفلاك لا يخمد رونقه. بعقله الراجح وإدراكه المليء بالفلسفة المتأصلة أو المكتسبة من الجامعة الأميركية في بيروت، روى الإنسانية حبًا وعطاءً وعلمًا وشفاءً، من ينابيع صافية طاهرة. خلال حلمه الشائك حاول مسح دمعة حزن الوطن ورماد عيونه. فكلّما كانت محاولته الجادّة الباسمة في هذا الإطار، تجهّم الحقد الذي جعل واقع الوطن شاردًا عاريًا مبللًا. كان بوحه صريحًا واضحًا، دخل عمق المشكلة اللبنانية دون مواربة (إياك أن تصدّقهم، فهؤلاء كانوا في الحرب، وكان بعضهم أسيادها. وكان هؤلاء الأسياد هم الذين دقوا المسامير في جسده، عندما عُلق لبنان على الصليب، وهم أنفسهم الذين يحرسون القبر اليوم حتى لا يأتي أحد يدحرج الحجر عن القبر، ليقوم لبنان السيد).
قيمة الكتاب في تنوّع مواهب صاحب السيرة، فقد عرض جميع حفلات التكريم والميداليات والأوسمة والمناصب والألقاب، التي لا مجال لعرضها في هذه المطالعة المتواضعة. لكن من الواجب أن نذكر بأن البروفيسور سالم عمل (كعضوٍ في لجنةٍ استشارية في البيت الأبيض للرئيس جورج بوش الأب ومن بعدها للرئيس كلينتون، مهمّة هذه اللجنة تتعلّق بالقضايا الصحّية والبيئية في الولايات المتّحدة الأميركية) كما جمع الكتاب المحاضرات التي ألقاها العالِم والموافق الثابتة التي اتّسم بها، ومقالات في افتتاحيات الصحف وخاصة جريدة النهار اللبنانية، جمعها في الفصل الثاني من الكتاب الذي يُعتبر مذكّرة كاملة متكاملة، كأنها التعليمات التطبيقية لترجمة (الإرشاد الرسولي، رجاء جديد للبنان) الصادر برعاية قداسة البابا يوحنّا بولس الثاني، أثناء زيارته لبنان، التي كان لها مقال في صفحات الكتاب أسهب سالم من خلاله في تقييم هذه الزيارة التاريخية.
رحلته كانت مثمرة مع البروفيسور مايكل دبغي، المتفوّق في جراحة القلب، الذي أجرى أول عملية لاستئصال باطن الشريان السباتي بنجاح عام 1954، هذه الرحلة كان لها حيّز مهمّ في المقال الذي كتبه في افتتاحية جريدة النهار يوم الخميس 27 تشرين الثاني 1997، وكان بعنوان (وهذا رجل من لبنان).
ثلاثيته التي آمن بها، إيمانه بوطنه: ضمَّت جبران خليل جبران، شارل مالك، ومايكل دبغي. كما ظهر في افتتاحية مقالته بمناسبة تسلّمه جائزة جبران من رابطة إحياء التراث العربي في أستراليا بتاريخ 17 نيسان عام 2000.
مواقفه ثابتة من إسرائيل العدو الأزلي للبنان (إن لبنان نموذج حضاري فريد للتعايش المسيحي الإسلامي، وهذا مغاير بل نقيض النموذج الإسرائيلي العنصري…). الرجل الذي قال عنه الراحل الكبير منصور الرحباني (طائر الأمل) كانت ولا تزال أبحاثه الأمل للإنسانية المعذّبة والبلسم للمجتمعات المتصدّعة ودول العالم الثالث، التي خصّها سالم بعديد من آرائه ومواقفه الواضحة، وخاصة عرضه لترحيل النفايات النووية والصناعية إليها، خارج إطار إتفاقية بازل.
بجهدٍ جهيدٍ وإتقان ومثابرة، وضع بطرس العنداري سيرة صديقه البروفيسور فيليب سالم، معْلمًا كمنارة هداية على ضفاف محيطٍ اجتاحه تسونامي، قاذفًا فجر الإنسانية بقدم التقدّم العلمي على حساب الإنسان والبيئة. بطرس العنداري الصحافي المتألّق صاحب الكتاب وواضع السيرة، سمع صوت الناطور من على صخور بلدته متريت، ابن البلدة التي قال شاعرها:
لا تطمعي بالهجر يا أختي رضا \\\ داب قلب كلّ مين بلادو هجر
يا ريت بمتريت هالعمر إنقضا \\\ نايم عا فرشة شوك ومخدّة حجر.
هو من حمل قريته وبلده وحنينه وهجًا إلى اغترابه، أبدع في مجاله صحفيًا وباحثًا وكاتبًا، بشعور مرهف صادق هادف، تسكنه الوطنية الصادقة. تجسّد طيفه في تمثال بجانب سنديان بلدته. تمثال يذرف دمعًا على حاضرٍ أليمٍ. حاضرٌ لم يغيّب كبارًا أمثال شارل مالك وجبران خليل جبران وسعيد عقل وكامل الصبّاح وغيرهم من عمالقة الأدب والعلم. بل غيّب حلمهم بوطن المجد. بإنتظار من يكتب سيرة عظماء أحياء من بلادنا كالدكتور عصام خليفة بدل محاكمته، أو راحلون كالبروفيسور رئيف ملكي. كما فعل بطرس العنداري في تدوين سيرة العملاق الدكتور فيليب سالم وكما فعل الأستاذ أنطوان سعد في تدوين سيرة البطريرك العظيم مار نصرالله بطرس صفير.
يوسف طراد
الأربعاء 8 نيسان 2020