بريطانيا إلى أين؟
بقلم: د. سنية الحسيني
النشرة الدولية –
تواجه بريطانيا تحديات عظمى لم تشهدها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. ولعل انخفاض قيمة الجنيه الإسترليني مقابل الدولار في أدنى مستوى له منذ أربعة عقود يعد من أهم المؤشرات على الصعوبات التي تواجه بريطانيا، اليوم.
وتبرز إلى السطح في بريطانيا أزمة غلاء المعيشة، التي تصاحبت مع أزمة الطاقة التي تصاعدت مع الأزمة الأوكرانية، وارتفاع أسعار الكهرباء، والتي فاقمت مجتمعة من معاناة البريطانيين. يأتي ذلك بالإضافة إلى تدهور أوضاع القطاع الصحي في البلاد، والذي انكشف بوضوح في ظل انتشار فيروس كورونا، كما تصاعدت موجات من الإضرابات العمالية. وهذا يفسر حالة التضخم التي تعاني منها البلد، اليوم، والذي بلغ حالياً ١٣%، وترشحه لبلوغ ٢٢%، في حال واصلت أسعار الغاز ارتفاعها، كما يتهدد البلاد الوصول لحالة من الركود نهاية هذا العام، خصوصاً في ظل انخفاض الناتج الإجمالي للبلاد أيضاً، وتراجع توقعات النمو الاقتصادي.
ودفعت هذه التطورات الاقتصادية الخطيرة الحكومة البريطانية لفرض حالة من التأهب بين أفراد الشرطة، وإعداد مخطط طوارئ تحسباً لاندلاع حالة من الفوضى وعدم الاستقرار والتظاهرات. وأدى الإحباط بسبب ارتفاع تكاليف المعيشة إلى إضرابات شهدتها بريطانيا مؤخراً عمت الموانئ والمطارات والعديد من المؤسسات.
لا يشكل الوضع الاقتصادي المتدهور المشكلة الوحيدة التي تعاني منها البلاد فقط، بل هناك اضطراب سياسي أيضاً. وتشهد بريطانيا خلال السنوات الأخيرة العديد من التقلبات السياسية وسقوط حكومات، جاء آخرها استقالة بوريس جونسون رئيس الوزراء السابق، بعد استقالة مسؤولين من حكومته بشكل جماعي بسبب خلافات حول سياسات الانتعاش الاقتصادي وغيرها، وخلفته ليز تراس، التي يبدو أن حكومتها لن تعمر طويلاً.
عانت بريطانيا بعد استقالة جونسون من منصبه في شهر تموز الماضي، وتسييره لأعمال الحكومة أسوأ أزمة اقتصادية مرت بها البلاد منذ سنوات طويلة، في ظل تفاقم الأوضاع بعد الحرب الروسية الأوكرانية. وتراس ثالث رئيسة وزراء من النساء في تاريخ بريطانيا، وخلفت جونسون في قيادة حزب المحافظين، بعد فوزها على ديشي سوناك، المرشح الآسيوي الأصل. ولا تحظى تراس بتأييد شعبي واسع، فكشف استطلاع للرأي جاء قبل ساعات من توليها منصبها الجديد، رغبة الأغلبية بالذهاب لانتخابات جديدة وعدم الانتظار حتى نهاية العام ٢٠٢٤، وهو التاريخ المحدد حسب الأصول لإجراء انتخابات جديدة، كما اعتقد نصف المستطلعة آراؤهم أن تراس لن تنجح في حل مشاكل البلاد، بينما نظر إليها ١٨%فقط بشكل إيجابي. وليس من المتوقع أن تقلب تراس التوجه الشعبي تجاهها، خصوصاً أنها جاءت لتحكم في ظل أكثر الأوضاع الاقتصادية استعصاءً، واستمرار الحرب الروسية الأوكرانية، وتفاقم أزمة الطاقة في البلاد.
ويبدو أن هناك نظرة سلبية عامة تجاه تراس، إذ اعتبرتها شبكة «CNN» الأميركية أنها غير ثابتة على موقفها. فقد تحولت من عضوية الحزب الديمقراطي الليبرالي، ومن تأييدها لإلغاء النظام الملكي وتقنين استهلاك الحشيش في البلاد إلى النقيض وعضوية حزب المحافظين، الذي يؤمن غالبية أعضائه بعكس التوجهات السابقة. وفي حين وصفت تراس خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بالمأساة، اعتبرت بعد ذلك أنه يمثل فرصة للتغيير، يأتي ذلك على الرغم من مشاركة تراس في تأليف كتاب بعنوان: «بريطانيا متحررة من القيود»، والذي دعا إلى إلغاء الدور التنظيمي للدولة، والذي جعلها من المدافعين عن سياسات السوق الحر، في ظل حزب المحافظين. كما وصفت صحيفة «التليغراف» البريطانية مسيرة تراس بالتناقض، إذ لم تنجح في دخول البرلمان إلا العام ٢٠١٠، بدعم كبير من ديفيد كاميرون، زعيم حزب المحافظين في حينه، بعد محاولتين فاشلتين عامي ٢٠٠١ و٢٠٠٥. واعتبر نيل فوسيت، زميلها السابق في الحزب الديمقراطي الليبرالي، أن مواقف تراس تتغير تبعاً للجمهور الذي تقف أمامه.
ووقعت تراس في مأزق مهم عندما عملت وزيرة للعدل، حيث اتهمت ببطء مساندتها للجهاز القضائي، عندما تعرض للانتقاد، ونقلت بعد ذلك من وزيرة للعدل إلى منصب متقدم في وزارة الخزانة، ما اعتبر تخفيضاً لرتبتها الرسمية.
وبعد وصولها للبرلمان، تنقلت تراس بسرعة بين المناصب فأصبحت وزيرة للتعليم العام ٢٠١٢ ووزيرة للبيئة العام ٢٠١٤ ووزيرة للعدل، كأول سيدة تشغل هذا المنصب، وجاء ذلك في عهد رئيسة الوزراء تيريزا ماي العام ٢٠١٦، وكذلك وزيرة للتجارة الدولية في العام ٢٠١٩ ثم وزيرة للخارجية في العام ٢٠٢١، في عهد رئيس الوزراء جونسون.
وتتبنى تراس سياسة جونسون الخاصة بدعم أوكرانيا، في ظل أزمة بلادها الاقتصادية المتفاقمة، إذ تعد بريطانيا ثاني أكثر دول العالم دعماً لنظام فولوديمير زيلينسكي، بعد الولايات المتحدة، حيث تعهدت بريطانيا بتقديم ٢.٣ مليار جنيه إسترليني خلال العام الجاري، وقامت بتقديم السلاح وتدريب عشرات الآلاف من المجندين الأوكرانيين منذ العام ٢٠١٥.
واضطرت تراس قبل أيام للتخلي عن بنود من خطتها الاقتصادية أو التراجع عنها، بعد أقل من شهر على شغلها لمنصبها الجديد، والتي تقوم على أساس ربط أجور القطاع العام بتكاليف المعيشة، وربط الفوائد بالتضخم، واقتراض الحكومة المليارات من الجنيه الإسترليني لتمويل مشروع للتخفيض الضريبي لمرتفعي الدخل في البلاد، ما يهدد بارتفاع نسبة التضخم، بعد رفض كبير من أعضاء في حزبها من المحافظين. وتسببت خطة تراس الاقتصادية لحدوث فوضى في الأسواق واضطراب قيمة عملة البلاد، فشهد الجنيه الإسترليني انخفاضاً غير مسبوق لم تشهده البلاد منذ العام ١٩٨٥، وتجنب التجار التعامل به.
وتعتبر تراس من المؤيدين والداعمين لإسرائيل، ووصفت نفسها بـ»الصهيونية الكبيرة»، وتطلعت لترسيخ وتقوية علاقة بلادها بإسرائيل، ووعدت في دعايتها الانتخابية بنقل سفارة بلادها من تل أبيب إلى القدس، تقليداً لما أقدم عليه دونالد ترامب الرئيس الأميركي السابق، ووعدت يائير لابيد رئيس وزراء إسرائيل بتنفيذ ذلك.
إلا أن مستقبل حكومة تراس ليس مضمونا، فقد انخفضت نسبة التأييد الشعبي لها بعد أقل من مرور شهر في منصبها إلى نسبة أدنى من تلك التي حصدها جونسون قبل تقديمه لاستقالته، في نتيجة اعتبرت الأسوأ لرئيس وزراء من المحافظين منذ العام ٢٠١٠، في ظل تفاقم أوضاع البلاد الاقتصادية، وتعثرها بسبب خطتها الاقتصادية غير الحكيمة. كما وقع حوالي ٢٠٠ ألف مواطن بريطاني على عريضة تدعو لإجراء انتخابات عامة بشكل سريع، وهذا العدد مرشح للزيادة في ظل استمرار توقيع هذه الوثيقة حتى ٢٨ من شهر كانون الثاني القادم. كما يشاع وجود تحركات في البرلمان لحجب الثقة عن تراس ووزرائها، بعد خطتها الاقتصادية المثيرة للجدل، والتي انتقدها صندوق النقد الدولي. كما تشير استطلاعات الرأي الأخيرة إلى تقدم حزب العمال على حزب المحافظين، وهي نتيجة لم تشهدها البلاد منذ أواخر التسعينيات من القرن الماضي.
تأتي تلك التطورات السياسية في ظل استمرار الأزمة الاقتصادية التي تمر بها البلاد، والمرشحة لمزيد من التفاقم، في ظل استمرار الحرب، فإلى أين ستذهب بريطانيا؟