رضوان عجرودي شاعر تونسي يعتمد السرد ويتخفف من البلاغة

النشرة الدولية –

ما يكتبه الجيل الراهن من شعر في تونس أمر لافت حقاً، إذ يفرض على قارئ الأدب العربي أن يدير وجهه إلى هذه الجهة من الأرض، ليرى أحفاد أليسار وهم يضخون في حقل الأدب هذه المياه الهائلة. أقصد هذا الكم المهم من النصوص الشعرية التي يكتبها شعراء ولدوا بين الثمانينيات والتسعينيات، شعراء دون الـ 40، ذهبوا بالقصيدة قي تونس إلى مناح جديدة، وجعلوا النص الشعري حمالاً لما يفوق طاقته، ومنفتحاً على حقول أدبية وفنية أخرى، ومتحرراً أكثر من القيود النظرية التي ظلت تغله لعقود.

هذا التحول في الكتابة الشعرية في تونس أسهم فيه الانفتاح المبكر للبلاد على قيم الحداثة وأنماط العيش وتقلبات الطقس السياسي، وما شهدته الحياة العامة من شساعة في مساحة الحرية، فضلاً عن تقاطع كتّاب تونس مع ثقافات العالم، ونهلهم بخاصة من الأدب الفرنسي الراهن.

الأسماء التي تنتمي إلى هذه المرحلة كثيرة، وإذا أردنا الوقوف عند تجارب حية وتمتلك قدراً كبيراً من الوعي الشعري وتقنيات الكتابة الحديثة من شاعرات وشعراء تونس الذين لم يتجاوزوا الـ 40، فبإمكاننا الإشارة إلى كل من محمد الناصر المولهي، صبري الرحموني، أمامة الزاير، وليد التليلي، أنور اليزيدي، جميل عمامي أشرف القرقني، محمد العربي، منى الرزقي، محمود الطارقي، أحمد شاكر بن ضية، ناظم بن ابراهيم، منير عليمي، محمد الصديق الرحموني، كوثر الدوزي، شاكر السياري، عزوز الهاشمي، توفيق مقطوف، وداد عبد العزيز، فاطمة كرومة، سماح البوسيفي، زينب الهداجي، منى الرزقي، مهدي الغانمي وغيرهم.

يمكن اعتبار رضوان عجرودي، أحد أسماء هذا الجيل، شاهداً على هذا التحول في الكتابة الشعرية في تونس. وإن كان لا يخرج في عمله الشعري الصادر حديثاً “فرح يختفي في المرآة” عن تلك الحقول المغناطيسية التي تسحب إليها معظم الشعراء، حيث التشكي من عدم التناغم مع العالم، والإحساس بالخيبة والخذلان وفقدان الوجهة، غير أنا نلمح ونحن نتقدم في قراءة الكتاب تفرداً في تناول “التيمات” والتعبير عما يعتمل في ذات الشاعر.

هذا التفرد مرده ثقافة الشاعر ومزاجه وأسلوب عيشه. مرده أيضاً تفاصيل تخص حياته. إن المعاني والتيمات متداولة ومكررة في الكتابة الشعرية عبر العالم. كل المواضيع كتبت منذ هوميروس إلى لحظتنا الراهنة، لكن شيئاً واحداً لم يكتب ولن يكتبه أحد، إنها حياة الشاعر. لا أحد سيكتب حياته إن لم يكتبها هو، لذلك يصرف العجرودي طاقته في كتابة تفاصيل حياته معطياً الأولوية لهذه التفاصيل التي تصير مع تدرج الكتابة المتن الشعري الأهم. إنها محور الشعر، منبعه ومصبه.

نص “حكاية لا تعرفها أمي”، يعطينا صورة واضحة عما ذهبنا إليه في مطلع هذه المقالة:

“وضعتني أمي في “ڨاجو” أصفر/تحت شجرة لوز/ كان الحصاد/ قطعت حبل سرّتي بأسنانها/ كنت أقصر من سنبلة، أما الآن فأنا أطول من شجرة اللوز تلك./ أطعمتني تراباً كي تصقل معدتي مثل جَدْيٍ/ وعلمتني إشعال النار وحلب الشاة وذبح الدجاجة/ الطفل الذي أطلقته للعدم صار شيخاً يا أمّهُ/ ويحمل عصا/ يحلم أن يسقط يوماً في حفرة،/  لينبت، كثيراً مثل سنبلة وطرياً مثل حبّة لوزٍ./ يضع الطفل رأسه على ركبتك وينام”.

يغلق رضوان كتاب الأم، ليفتح كتاب إخوته، واضعاً لهم توصيفاً بلاغياً يختصر وضعهم الاجتماعي:

“إخوتي، المياه التي بقيت في الإسفنجات بعد عصرها/ صقل بهم بناؤون وجوه جدران المدينة”. أوفرهم حظاً كان يقضي يومه على الأرصفة. تأخذه الرأفة بإخوته، شعرياً، لذلك ينتقل من صور القسوة إلى الوداعة ليشبهم بـ “سواق رقيقة” و”مراكب ورقية” تطفو على سطحه.

يواصل العجرودي سرد تفاصيل من حياته، وهو يستعيد رفاق الطفولة الذين كانوا يسرقون التفاح في صغرهم، ثم عاشوا تجربة السجن لاحقاً حين كبروا لدواعي سياسية أو اجتماعية. في سياق انشغاله بالتفاصيل، يترك العجرودي القضايا الكبرى للمهتمين بها، ويكتب عن “علكته”، معتبراً إياها أثمن شيء يملكه:

“العلكة التي طمس بها رائحة سجائره الأولى عن أبيه/ قدمها رشوة ثمينة لأترابه كي يمحوا اسمه من السبورة/ حين صار طالباً/ كانت سلاحه الخفي كي يظهر مثل أبطال الويسترن/ ويخيف بها أصحاب الندب العميقة/ أخفى بها خوفه/ رائحةَ البصل قبل أول قبلة/ لا مبالاته بشرطة البلد/ إسكات جوعه/ ألمَ السوس في ضروسه”.

 

مثلما يفرد رضوان نصاً عن “العلكة”، يكتب أيضاً عن ملابسه وطعامه، عن سجائره ومشكلته مع البنوك، عن السرقة، والتفكير في أن يصبح المرء شرطياً، عن نجاته من نهاية رواية انتحر كاتبها، عن رتابة أيامه وضجره من الذكورة، وتفكيره في الانتحار، عن تعاسة العمل، عن “العيش في مكعبات الأسمنت”، عن أحلامه التي يشتريها من السوق السوداء، عن قلبه الذي لم يعد يظهر في الأشعة السينية، عن الأب الذي “تبخّر/ وأمطر أخيراً في مدامع تمساح”.

يكتب الشاعر عن حرب، لكن بروح طفل، بعينيه وبحواسه. ويحضر الحب، لكن هادئاً وواقعياً، فلا مجال لرومنطيقية مبالغ فيها. لكن واقعية الحب ليست مبرراً للتنصل من خيال الكتابة:

“نشعل قبلة ونوزعها على الجدران/ يطرحنا الحب عاريين في الفلاة/ مثل زوج أيائل في فيلمك المفضل”.

إن قراءة “فرح يختفي في المرآة” يفتح من جديد ذلك السؤال العابر للأجيال والتجارب الأدبية، ما الذي يجعل من نص ما شعراً؟، أو من أين يستمد النص مشروعيته الشعرية؟ ونحن إذ نطرح هذا السؤال لا نريد بالضرورة تقصي ما وصل إليه جان كوهين ومايكل ريفاتير وجوناثان كولر، وتزفتان تودوروف وكمال أبو ديب وغيرهم ممن أفردوا وقتاً كبيراً للبحث في مفهوم “الشعرية”. فقد صار من الصعب اليوم، مع الكتابات الجديدة، ضبط تلك الكيمياء التي يتخلق منها النص الشعري، فالأمر لا يتعلق بإيقاعات وبلاغات وحسب، بل ثمة اشتغالات مختلفة لم يعد النقد قادراً على مواكبتها، وبالتالي حين يعجز القارئ عن تعقب شعرية نص ما أو حين ينفلت منه خيط قراءته فإنه ينفيه، أو ينفي عنه شعريته.

لذلك يحس قارئ الكتاب أن عجرودي يذهب بالشعر إلى ضده، فثمة جنوح واضح إلى السرد وتوظيف متعاقب للجمل الطويلة، وللصفات المركبة، وللجمل التفسيرية والمعطوفة. ثمة أيضاً تخفف من البلاغة وخفوت في الإيقاع، ونفور من تلك الترابطات اللغوية التي تترك صدى إيقاعياً في أذن المتلقي.

وإن كان العجرودي يكتب تحت مسمى “قصيدة النثر”، فهو يكتب أيضاً ضدها. لقد ترك تعاليم السيدة سوزان برنار وراءه وطفق يكتب، لذلك نلمس في العمل قطعاً واضحاً مع مفهوم التكثيف، وكأن الشاعر يريد أن يقول كل شيء، ولا يسمح لأي شرط نقدي أن يوقف هذا الدفق.

يجنح الشاعر إلى تشبيهات فريدة تراهن على تقديم صور شعرية مبتكرة ومواكبة للحياة الراهنة، فالكتابة “سرقة بنك”، و”الحياة ملاكم رشيق”، وعطر المرأة قنبلة ذرية في صدر الشاعر.

ونحن نتحدث عن شعرية التفاصيل لدى عجرودي، لا نقوم بالضرورة بإسقاط خلاصات فخري صالح بخصوص تأثر الشعراء العرب بتجارب غربية في كتابه اللافت “شعرية التفاصيل: أثر ريتسوس في شعر العرب”. فنمط الحياة نفسه هو الذي يفرض نمط الكتابة، وقد يحتاج شاعر اليوم إلى مرجعية قرائية توجه أو تغني كتابته، لكنه يحتاج أكثر إلى رؤية فردية وتجربة في الحياة وحس شاعري وأسلوب كتابة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى