الحضور الباهت..* نوف قيس

النشرة الدولية –

يجتمع زوجان على مائدة واحدة تجمعهما عقود من الزمن بكل تفاصيله، تحدثه عن يومها ويحدثها عن عمله، تخبره عن رغبتها برحلة صغيرة على الشاطئ ويبادرها بالموافقة.. لكن يستشعر أحدهما أو كلاهما حضورا باهتا، يجمعهما المكان ويغيبهما الوجود، كأن أحدهما يخبر الآخر: أنت بقربي لكنك لست معي.

الحضور الباهت له وجود، له صوت وحكاية وموقف، له ضحكة ونظرة وإيماءة وميل، مليء بالحال والسؤال، مليء بكل شيء إلا أنه يأتي باهتا شاحبا، كأعشاش الصقور الجارحة، كالملاعق الفضية المنسية، كتراب المقابر.

هل تعلم ماذا يصنع بك الحضور الباهت؟ إنه يجعلك تصد عن النداءات، لن تميز ما إذا كان هذا النداء رحيما بقلبك أم لإشاحة النظر عما يؤذيك، لن تسمع أنين التوسلات بالبقاء والصمود، يجعلك صامتا دون ردة فعل وقد يكون في ميل ابتسامتك إفصاحا عنه، تفصح بأن هناك شيئا شاحبا قد نال منك وأنت صامت، الحضور الباهت صمتا يفضح الصمت.

تعلم أن تتجنب الحضور الباهت، تعلم ألا يمتلكك الشعور به، انفضه جيدا من جسدك، يجب أن تتخيله وتراه كشاشة مرئية أمامك وتكون لديك خطة دفاعية ضده، تجهز به ردود الأفعال التي تكسره وتحطم شحوبه ولونه الرمادي القاسي.. تقلعه من جذره، تعلم أن تشتكي وترفض الهدوء لأجل الهدوء فقط، هذا ليس بسلامك الداخلي بل استسلامك لحياة تسير بوتيرة واحدة.

جميعنا نملك الشجاعة والقوة والجرأة والصدق والحب والعطاء والأمانة والشغف، قد أملك من الشجاعة ما تملكه أنت من الحب، وتملك أنت من الأمانة قدر ما أملكه أنا من الجرأة، وقد نفتقد كلانا الشغف، العواطف هنا متفاوتة وبدرجات مختلفة، كسلم موسيقي العلامة الموسيقية «دو» تكتمل بالعلامات الأخرى، هذا الاختلاف هو ما يجعل نغمة الحياة جميلة متناغمة تتواتر يوما عقب يوم، فلو كانت متساوية لكان رتم الحياة واحدا مملا تود لو يتوقف لأنه يبدو مزعجا وبلا معنى، موجود لكنه غير مؤثر ولا داعي له.

يأتينا السلام الداخلي متى ما استمعنا لأصواتنا، ننبش ذاكرتنا باحثين عن حادثة ترقرق القلب، فبالنهاية التصالح مع النفس ومسامحتها يغدو سبيلا للعيش بهدوء ولو رغما عنا، نوقف الضجيج الذي تخلفه الحياة في الروح، نوقف الشرود الذي يغرقنا ونسكت فرقعات القلب حين غضب حتى يتسنى لنا سماع صوت الحياة الذي يخبرك بأن حضورك هو دعوة للحياة، وفي بسمتك ضحكة تتجلجل بعمق العمق، وأنك مؤثر ولست جمادا، أنك ذو حضور يلون المكان يستقي من كل شيء قوته ويفرض نفسه فرضا بأنه ما عاد للبهتان والشحوب سبيل بيننا، حتى لو كان هذا العالم الذي أحببت قد انتهكك بقساوة وأن الماضي قد نهش من حياتك بضراوة.. لا بأس، قد ينكسر قلبك لكن لا تسمح له بأن يصبح حطاما هشيما، واجعل المجرفة التي غرفت الفرحة منك هي ذاتها التي تدفن الحزن فيك.

حتى تتجنب الحضور الباهت اختبر شيئا من المستحيل حتى تتمكن من العودة إلى الواقع بامتنان الوجود، اختبر الغرق والظلام الدامس، تخطّ الاختناق والفوبيا من الأماكن المرتفعة والصراصير والممرات الزجاجية، اعبر التجربة الأولى من كل شيء، اجتز انتظار الشيء واللاشيء، اشهد عددا من المرارات واللاخيارات والإرادة المسلوبة والعجز والأبواب المسدودة، وبالمقابل اشهد النجاحات كلها، كن كورود الزفاف التي شهدت كل فرحة، كآلات التصوير التي التقطت كل ابتسامة تموج ما بين فرحة وفرحة.. حتى يتبقى لك في النهاية نمو الأجنحة والطيران.

نقلاً عن جريدة “الأنباء” الكويتية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى