تصفية حسابات روسية – إيرانية في محافظتي السويداء ودرعا السوريتين* سوسن مهنا
النشرة الدولية –
يخيم الحذر والترقب على الأجواء في الجنوب السوري، بعد الاشتباكات الدامية التي وقعت بين أهال من محافظة السويداء، وآخرين من بلدة بصرى الشام في ريف درعا الشرقي. وعادت عمليات الخطف المتبادل من قبل مجموعات من الطرفين، وسط تخوف وتحذيرات من أن هذه الاشتباكات في حال توسعت قد تؤدي إلى فتنة طائفية في المنطقة، كثيراً ما حاول العقلاء من المنطقتين تفاديها منذ بدء الحرب السورية.
جذور الأزمة
هذا التوتر ليس وليد الساعة، وله جذور تعود إلى سنوات مضت، فمنذ بدء الثورة السورية عام 2011، واسم محافظة السويداء يخرج مراراً إلى واجهة الأحداث الأمنية، ليعود ويستكين. وذلك لأسباب عدة، أبرزها اغتيال الشيخ وحيد البلعوس في 3 سبتمبر (أيلول) 2015، الذي أسس “حركة رجال الكرامة”، ويُعد الشخصية الدرزية الأبرز سورياً منذ وفاة سلطان باشا الأطرش عام 1982. ووجهت أصابع الاتهام إلى النظام السوري حينها، وذلك لجملة عوامل أدت إلى الاغتيال، منها الدور الوطني الذي قام به الشيخ، والانتفاضة في وجه النظام، وحماية قرى الجبل والنازحين، والحفاظ على العلاقات التاريخية مع أهالي حوران (سنّة)، ورفض التجنيد الإجباري، والوقوف في وجه الفتنة بين الدروز ومحيطهم السني. إضافة الى أن حركة الشيخ البلعوس قامت على أهداف واضحة، هي “حماية الأرض والعرض والدين والحرص على التنوع، ورفض التقسيم، وحماية الانتماء الوطني، والتمسك بعمق الدروز العربي”. ومنذ اندلاع النزاع في سوريا، حيدت الأقلية الدرزية نفسها فلم تحمل السلاح ضد القوات الحكومية، ولا انخرطت في المعارك إلى جانبها. وتخلف الآلاف من أبنائها عن الالتحاق في الخدمة العسكرية، بعضهم بسبب معارضته للنظام، والغالبية بسبب رفضها القتال خارج المناطق الدرزية، فيما التحق عدد كبير منهم في لجان شعبية شُكلت للدفاع عن مناطقهم خصوصاً في السويداء، ما أثار غضب السلطات. ودفع ذلك الوضع النظام إلى ممارسة استفزازت عدة، منها ما حدث في 25 يوليو (تموز) 2018، حين تعرضت مدينة السويداء وريفها الشرقي لهجوم واسع، أسفر عن مقتل أكثر من 260 شخصاً، في اعتداء هو الأكثر دموية ضد الأقلية الدرزية، كما خُطف وقتها نحو 30 مواطناً درزياً من نساء وأطفال. وحمّل النظام السوري حينها تنظيم “داعش” المسؤولية. بعد هذه الحادثة دعا رئيس النظام بشار الأسد، أبناء السويداء إلى الالتحاق في الخدمة العسكرية، وقال، “لا أحد منا يدافع عن قريته ومحافظته. ندافع عن سوريا أو لا ندافع”.
الفيلق الخامس المدعوم من روسيا
نهار الثلاثاء 29 سبتمبر الماضي، قامت فصائل محلية من السويداء، مختلِفة التوجهات والولاءات من حيث التبعية للنظام من عدمها، أو الالتزام فقط بحماية المنطقة ذات الطابع السكاني الدرزي، بمحاولة لاستعادة الأراضي المسيطَر عليها من قبل أحمد العودة، قائد اللواء الثامن التابع للفيلق الخامس المدعوم من روسيا، وإرجاعها إلى الأهالي، ما أدى إلى عودة الاشتباكات التي أسفرت بدايةً عن تقدم الفصائل الدرزية، من بينها “حركة رجال الكرامة” و”قوات الدفاع الوطني”، ومدنيون قدِموا من مناطق درزية مختلِفة للمشاركة في العمليات القتالية. وأسفرت هذه الاشتباكات عن مقتل 16 شخصاً حتى الآن، وإصابة العشرات من حركة “رجال الكرامة”.
أما جذور التوتر بين الفريقين فتعود إلى تاريخ 27 مارس (آذار) 2020، حيث حصلت اشتباكات سببها قيام الفيلق الخامس بقيادة العودة (سني) بقتل شاب درزي يُدعى هشام شقير من بلدة القريا. وكانت حجة العودة أن اثنين من أهالي قرية تابعة لبصرى الشام تعرضا للخطف في السويداء، وكردة فعل على ذلك قام بقتل شقير. يومها تطورت الأمور بشكل دراماتيكي وحصلت اشتباكات بين الجانبين أسفرت عن وقوع قتلى من السويداء، مقابل قتيل واحد وإصابات عدة من قوات أحمد العودة. وعلى أثر الحادثة قام العودة بالسيطرة على عدد من الأراضي تمثل رمزية تاريخية للأهالي، وثبّت فيها نقاطاً عسكرية، وهي في الأساس أراضٍ زراعية تابعة لمدنيين. وأقامت هذه القوات، متاريس عند المدجنة التي تبعد عن تخوم البلدة نحو ألف متر، ونصبت أسلحة متوسطة عند هذه المتاريس، منها مدافع “هاون” و”دوشكا”. واستمرت سيطرة العودة على هذه الأراضي كل الفترة الماضية، وتعرض الأهالي لمشاكل عدة خلال عمليات الزرع والحصاد، ولم يتمكنوا من إتمام أعمالهم في أراضيهم. وكانت مصادر كشفت عن تعيين قائد أمني روسي من قبل قاعدة حميميم العسكرية لضبط الأمن في محافظات المنطقة (درعا، والسويداء، والقنيطرة) وذلك منذ عام 2019.
النظام لم يحرك ساكناً
تشير المعطيات الميدانية إلى أن النظام السوري، لم يحاول على الإطلاق التدخل لتطويق الأحداث بين درعا والسويداء، التي لا يزال يفرض سيطرته عليها. ونقلت صحيفة “الوطن” التابعة للنظام عن “مصدر رسمي في محافظة السويداء” قوله، إنه “ستتم دراسة القيام بإجراءات من قبل الجيش العربي السوري، لوضع حد للاعتداءات التي يقوم بها مسلحو ما يُسمى “الفيلق الخامس” ضد أهالي قرية القريا بريف السويداء”.
مصادر أهالي السويداء حملت النظام المسؤولية، معتبرةً أنه تقاعس عن حماية المحافظة، على الرغم من الوعود المتكررة من مسؤولين كبار في النظام بتوفير ذلك. واعتبرت المصادر أنه لم تكن هناك مساندة من قبل قوات النظام، ولا من قبل ميليشيات الحزب السوري القومي التابعة له. وتابعت أن الأهالي رفضوا مشاركة ممثلي النظام في تشييع قتلى الاشتباكات. ونشرت صفحات محلية على موقع “فيسبوك” من بينها صفحة “السويداء الثورة والحراك السلمي” صوراً لبشار الأسد ملطخة بالدماء، تعبيراً عن اتهامه بالتورط في مقتل أبناء السويداء، والوقوف خلف الأحداث. كما نشط وسما “بشار الأسد مجرم حرب”، و”سوريا لينا وما هي لبيت الأسد” على موقع “تويتر”.
دفاع عن النفس!
لكن قوات أحمد العودة كان لها رأي آخر، إذ نُقل عن قيادي سابق في فصائل المعارضة السورية في درعا، قوله إن “اللواء الثامن” كان في حالة دفاع عن النفس، بعدما وصل المهاجمون إلى تخوم مدينة بصرى الشام، محملاً ميليشيات “الدفاع الوطني” في السويداء مسؤولية عن ما يجري بين المحافظتين، ذلك أن “أجهزة النظام الأمنية والإيرانيين أوعزوا إلى هذه الميليشيات بالهجوم على مناطق في ريف درعا الشرقي المتاخم لريف السويداء الغربي بهدف إثارة الفتنة، وهو هدف دائم للنظام”. وكان أحمد العودة حذر في فيديو نشرته شبكات محلية، في 2 أكتوبر (تشرين الأول) الحالي، من “أيادٍ سوداء” دخلت لتعكر صفو الجارتين، و”لتشعل نار الفتنة والحرب، ممثلةً في عصابات الفتنة والخطف، وعصابات إرهابية مسلحة خارجة عن القانون”. وتوجه إلى أهالي “جبل حوران”، محذراً من استخدامهم كأدوات لتنفيذ أجندات لجهات أكبر، كـ”حزب الله” اللبناني و”مرتزقة إيران وأذرعها الأمنية”.
لـ”حزب الله” ثأر مع قوات أحمد العودة
من جهة أخرى، قالت الصحافية نورا الباشا، ابنة السويداء، إنه “بعد أحداث مارس الماضي وتحديداً في شهر أغسطس (آب)، قام ضباط تابعون لحزب الله بزيارة إلى قيادة ميليشيا “الدفاع الوطني” في السويداء، حيث قدموا الدعم العسكري واللوجيستي. لكن عملية التسليح لم تقتصر على عناصر “الدفاع الوطني”، لأن تلك الميليشيا، بفضل السلاح الذي استلمته من الحزب، قامت بتسليح مجموعات كبيرة في ريف السويداء الجنوبي والجنوبي الغربي”. وعن نشأة الفيلق الخامس قالت الباشا إن “هذا الفيلق نشأ نتيجة التسويات التي حصلت في الجنوب السوري أثناء محاولة النظام السيطرة على محافظة درعا. وقامت روسيا حينها (كي تفرض حلاً وسطاً بين النظام وفصائل المعارضة)، بتسليم أحمد العودة قيادة اللواء الثامن التابع للفيلق الخامس، ما يعني أن فصيل العودة تابع كلياً للسلطة الروسية”.
وأوضحت الباشا أن “الحزب استغل التوتر الحاصل بين الفصائل الدرزية وقوات أحمد العودة، إثر تسليح “الدفاع الوطني”، الفصيل الدرزي الوحيد الذي استطاع الحزب اختراقه، بحيث أصبح واجهةً له. ذلك أن للحزب ثأراً شخصياً ضد العودة، يتمثل بقيام الأخير بطرد شيعة بصرى الشام منذ سنوات، بسبب قيامهم بعمليات ضد السنة الموجودين هناك، لذا يعمد حزب الله ومن خلال فصيل “الدفاع الوطني” إلى توجيه ضربات إلى قوات العودة”. وأضافت أن “مطالب أهالي السويداء بسيطة وتتمثل في استرجاع أراضيهم، لما لها من قيمة تاريخية ومعنوية منذ عهد سلطان باشا الأطرش”، مشددةً على أن “فكرة الانفصال أو الحكم الذاتي غير واردة بتاتاً عند أهالي السويداء”.
ويتوافق كلام الصحافية نورا الباشا مع ما ذكره مصدر من السويداء أن “حزب الله” بتدخله عبر دعم ميليشيا “الدفاع الوطني” يحرض الأهالي على قيام فتنة سنية – درزية.
الوجود الروسي في الجنوب يزعج إيران
تشير مصادر محلية إلى أن الوجود الروسي في الجنوب يزعج الجانب الإيراني، لأنه يحد من تمدد الميليشيات المدعومة من قبلها، في ريف درعا الشرقي، بما فيها “حزب الله”. ولروسيا أهداف كثيرة من وراء المحافظة على “الستاتيكو” القائم حالياً بسبب تفاهمات إقليمية، منها “التسوية” التي قامت في يوليو 2018، والتي سيطر بموجبها النظام على محافظة درعا بوساطة روسية، لكن هذه التسوية لم تسيطر على الفوضى الأمنية، التي تُرجمت باغتيالات وتفجيرات وعمليات خطف واعتقال. وعلى الرغم من أن سيطرة النظام على المحافظة تمت بمعظمها عبر “الضامن” الروسي من خلال اتفاقيات التسوية مع فصائل المعارضة، إلا أن هذا الضامن كثيراً ما يتوارى عن المشهد في المحافظة، فيما يبرز دور الميليشيات التابعة لإيران أو المدعومة منها، وسط تنافس لم يعد خافياً بينها وتلك التي تدعمها روسيا.
لذلك، تريد روسيا إبقاء سيطرتها على منطقة نفوذها الأساسية شرق محافظة درعا، ومنع تغلغل إيران و”حزب الله” بشكل كامل، هادفةً من وراء ذلك إلى إيقاف عمليات التجنيد، التي تقوم بها إيران، وتقليص نفوذها في الجنوب السوري. وكانت التسوية تقضي بإبعاد الميليشيات الإيرانية و”حزب الله” عن الحدود السورية – الأردنية من 40 إلى 60 كيلومتراً، وذلك بسبب خشية كل من الأردن وإسرائيل أن تسهل عودة النظام إلى الجنوب، تموضع القوات الإيرانية والقوات الحليفة لها قرب حدودها. وأدت عملية التدخل الروسي إلى منع استعادة النظام السيطرة الكاملة على الجنوب السوري، وفي المقابل أبقت الصراع بين الفصائل المتواجدة هناك دون ترجيح كفة الغلبة لطرف ضد آخر. وتعتبر إيران و”حزب الله” المنطقة الجنوبية ذات أهمية جيواستراتيجية، وخط جبهة لأي مواجهة عسكرية محتملة مع إسرائيل. ويرى البعض أن إيران لم تخرج أصلاً من تلك المناطق، بل أقدمت على عمليات شراء واسعة للأراضي والممتلكات، وشاركت في الإشراف على معبر نصيب الحدودي مع الأردن، فضلاً عن إطلاقها حركة تشيُّع نشطة في مناطق عدة من الجنوب السوري.
يُذكر أنه متابعةً لأحداث القريا، التقى الشيخ موفق طريف، الرئيس الروحي للطائفة الدرزية، السفير الروسي في إسرائيل أناتولي فيكتوروب والملحق العسكري للسفارة. ونقل رسالة احتجاج إلى الكرملين ووزارتَي الدفاع والخارجية في موسكو، حول ما آلت إليه الأوضاع في الجبل والاعتداءات المتكررة على الدروز وممتلكاتهم في منطقة القريا. وقال إن “الدروز لم يكونوا يوماً معتدين، ولكن باستطاعتهم دحر أي اعتداء، ولو بعد حين. وعليه، يتوجب على القوات الروسية وقوات النظام السوري لجم الفيلق الخامس وأحمد العودة، وفرض النظام قبل أن تتدهور الأوضاع أكثر مما هي عليه”.
من جهته، أوضح السفير الروسي أنه بعد الاتصالات التي أجراها الشيخ طريف مع موسكو، أصدرت وزارة الدفاع الروسية تعليماتها الفورية لوقف النار في القريا، والعمل على هدنة شاملة في المنطقة بوساطة من الجيش الروسي.
نقلاً عن “اندبندنت عربية”