لماذا ترتفع أسعار العقارات عالمياً رغم الوباء والركود والبطالة؟

النشرة الدولية –

تعرّض الاقتصاد العالمي لضربة تاريخية جراء تداعيات وباء “كوفيد-19” الذي دفع ملايين الأشخاص إلى براثن البطالة مع تراجع استثمارات الشركات وانكماش الناتج المحلي.

لكن رغم الكارثة الصحية والاقتصادية غير المسبوقة، ظهر قطاع الإسكان كأحد الرابحين من الأزمة مع ارتفاع قوي لأسعار المنازل لم يكن متوقعاً بالنسبة لكثير من المتابعين في بداية الوباء.

شهد الركود الاقتصادي العالمي السابق إبان الأزمة المالية العالمية في عام 2007 انخفاضاً للأسعار الحقيقية للمنازل بنسبة 10% في المتوسط، ما تسبب في اختفاء تريليونات الدولارات من فئة الأصول الأكبر في العالم.

رغم أن سوق الإسكان لم يكن محور الركود الاقتصادي الحالي، فإن الأزمة الاقتصادية دفعت الكثير من المتابعين لأسواق العقارات حول العالم للتكهن باحتمالية حدوث انخفاض لأسعار المنازل.

لكن الواقع يشير إلى أن هذه التكهنات لم تكن صحيحة في النهاية، حيث ارتفعت أسعار المنازل في معظم البلدان ذات الدخل المتوسط والمرتفع خلال الربع الثاني من العام الجاري.

أظهرت البيانات بالفعل ارتفاع أسعار المنازل في الدول الغنية بمتوسط يبلغ 5% في الثلاثة أشهر المنتهية في يونيو الماضي على أساس سنوي.

من بين خمس وعشرين مدينة رئيسية حول العالم، فإن أكثر من نصفها كانت إما معرضة لخطر حدوث فقاعة أو مبالغ في قيمتها في الفصول الأربعة الماضية، بالنظر إلى إشارات تتمثل في انفصال الأسعار عن الدخل، والاختلالات في الاقتصاد الحقيقي مثل الإفراط في الإقراض ونشاط البناء.

مؤشر “يو بي إس” لعام 2020 أظهر أن مدينة “ميونخ” الألمانية جاءت على رأس المدن المهددة بحدوث فقاعة عقارية، يليها فرانكفورت وتورونتو وهونج كونج وباريس، بينما كانت المنازل في لندن وطوكيو ولوس أنجلوس مقومة بأكثر من قيمتها الحقيقية لكنها لم تدخل مرحلة خطر الفقاعة.

شهدت الولايات المتحدة صعوداً لأسعار المنازل على المستوى الوطني بنسبة 4.8% في يوليو مقارنة مع ارتفاع 4.3% في يونيو، بحسب مؤشر “ستاندرد آند بورز كور لوجيك كيس-شيلر”.

كشفت بيانات أخرى صادرة عن الرابطة الوطنية للوسطاء العقاريين أن أسعار المنازل القائمة في الولايات المتحدة ارتفعت 11.4% في أغسطس الماضي على أساس سنوي لتسجل مستوى قياسياً بلغ 310.6 ألف دولار.

في المملكة المتحدة ارتفع متوسط أسعار المنازل بنسبة 5% في سبتمبر على أساس سنوي في أكبر صعود منذ عام 2016، مسجلة متوسط 226.1 ألف إسترليني (286 ألف دولار) لأول مرة على الإطلاق.

في ألمانيا شهدت أسعار المنازل ارتفاعاً بنسبة 11% في الربع الثاني من هذا العام مقارنة بنفس الفترة قبل عام واحد، وهو ما تكرر في عدة بلدان أوروبية أخرى.

الصعود ظهر في آسيا أيضاً، وهو ما أجبر السلطات في كوريا الجنوبية والصين على فرض قيود على السوق لإبطاء وتيرة ارتفاع أسعار المنازل ومنح المستهلكين القدرة على تحمل شراء العقارات السكنية.

ساهمت الكثير من العوامل في دعم ارتفاع أسعار المنازل حول العالم رغم أزمة الوباء وما تبعها من ركود للاقتصاد وفقدان ملايين الوظائف وحالة عدم اليقين بشأن المستقبل.

في البداية، أدى الخوف من الوباء إلى تراجع المعروض من المنازل، سواء عبر عمليات البناء الجديدة والتي تأثرت سلباً في الأشهر الأولى من ظهور “كوفيد-19” أو حتى انخفاض عروض بيع العقارات مع عدم رغبة الكثير من الأشخاص في بيع منازلهم والانتقال إلى أخرى وسط الأزمة.

منذ ذروة تفشي الوباء في الولايات المتحدة في منتصف شهر مارس وحتى سبتمبر الماضي تم عرض بيع 2.91 مليون منزل عبر إعلانات عقارية، وهو ما يقل 390 ألف منزل عن المعروض في نفس الفترة قبل عام واحد.

على الجانب الآخر، تزايد الطلب على شراء المنازل بدعم تراجع معدل الرهن العقاري والتوجه المتزايد للعمل عن بعد، ما جعل أسعار المنازل ترتفع مع ارتفاع الطلب وتراجع المعروض والمخزون.

دعمت السياسة النقدية التيسيرية للبنوك المركزية العالمية عبر خفض معدلات الفائدة لمستويات متدنية تاريخياً ارتفاع الطلب على المنازل مع تراجع تكلفة الرهن العقاري.

انخفض معدل الرهن العقاري الأمريكي لمدة ثلاثين عاماً لمستويات قياسية متدنية عند 2.9% مقارنة بـ3.7% في بداية العام الحالي، ما جعل عدداً أكبر من الأمريكيين قادراً على تحمل تكلفة شراء منزل.

السياسة المالية أيضاً قدمت دعماً لأسعار المنازل، ففي الفترات الطبيعية التي كانت تشهد ركوداً اقتصادياً وانخفاضاً للدخول ووظائف الناس وعانت أسعار المنازل من تراجع ملحوظ.

لكن الركود الحالي تزامن مع قيام حكومات كثير من الدول بضخ تريليونات الدولارات في شكل مساعدات للأسر، ما تسبب في زيادة الدخل المتاح للأسر في مجموعة الدول السبع الكبرى بنحو 100 مليار دولار حتى رغم اختفاء ملايين الوظائف.

وفرت قرارات حكومية أخرى تمثلت في تأجيل سداد المقترضين العقاريين لديونهم في إسبانيا واليابان وغيرهما أو حظر المطالبة باستعادة الرهن العقاري في هولندا، دعماً لعمليات الشراء والأسعار بالتبعية.

تغيرات أنماط المستهلكين شكلت عامل دعم آخر لسوق العقارات، حيث أدى الوباء إلى زيادة الطلب على المنازل الكبيرة ذات المساحات الخارجية الواسعة، وفي بعض المدن مثل نيويورك وسان فرانسيسكو تسبب في الاتجاه نحو الضواحي الأكثر هدوءًا وابتعاداً عن الزحام.

رغم الارتفاعات المسجلة في الأشهر الماضية، لا تزال الشكوك تحيط باحتمالات استمرار صعود أسعار المنازل في الفترة المقبلة.

لا تزال حالة الغموض حيال تطور معدلات البطالة المرتفعة والآفاق الاقتصادية القاتمة للاقتصادات ودخل الأسر تضفي كثيراً من الاحتمالات المتباينة بشأن أسعار المنازل في الفترة المقبلة.

شهدت قيمة الإيجارات هبوطاً بالفعل في معظم المدن الكبرى، ما يشير إلى احتمالات حدوث حركة تصحيحية للأسعار، بعد اختفاء أثر الدعم والمساعدات الحكومية للأسر والاقتصاد في ذروة الوباء.

فشل الكونجرس الأمريكي في التوصل لاتفاق بشأن حزمة تحفيز إضافية لدعم الأسر والشركات والقطاعات المتضررة من الوباء، بعد مساعدات بلغت قيمتها نحو 3 تريليونات دولار انتهى مفعولها في يوليو الماضي.

ظهرت إشارات في بعض الدول على خفض الحكومات لخطط الدعم الاقتصادي، ما يهدد بتراجع الدخل المتاح لكثير من الأسر والذي قد يقلص الطلب على شراء المنازل.

لكن رغم ذلك، لا يزال عامل تراجع المعروض يوفر بعض الدعم للأسواق العقارية، بالنظر إلى تراجع عمليات البناء في الولايات المتحدة 17% منذ بداية الوباء، واستمرار الركود الاقتصادي والذي يتزامن عادة مع انخفاض الاستثمارات الجديدة في القطاع.

يعتقد “إد بينتو” المدير السابق للائتمان في “فاني ماي” أن زيادة أسعار المنازل تعتبر غير مستدامة، لكنها سوف تستمر على مدار الستة أشهر المقبلة على الأقل لحين بدء ارتفاع المعروض مجدداً وهي عملية قد تستغرق بعض الوقت.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button