الثقافة المصرفية في هوَّة الجائحة* إليسا مارتينوزي
النشرة الدولية –
منذ الأزمة المالية العالمية عام 2008، حاولت الصناعة المالية العالمية إصلاح ثقافة خوض المخاطر المتهورة. وعيّنت المصارف أعداداً هائلة من مسؤولي الامتثال، مع الاستثمار في أحدث التقنيات، وتقليص المكافآت من أجل السيطرة وتثبيط السلوكيات السيئة.
فما من عجب أن يخشى قادة الصناعة المالية من حدوث تمزق محتمل في نسيج الصناعة الذي طالما حاولوا الحفاظ عليه. ومع الوباء الراهن الذي يؤصل للعمل عن بُعد مع مرور الوقت، يقول مديرو المصارف إن الثقافة المؤسسية باتت في خطر كبير.
على سطح الأحداث، حقّق العمل عن بُعد معدلات أداء جيدة للغاية حتى الآن. ويسرت التقانات الحديثة من عمليات التداول، ومن التعامل مع أحجام قياسية من الأوراق المالية، فضلاً عن تحقيق أرباح غير مسبوقة من مواقع العمل المؤقتة في المنازل. وأصبح في الإمكان عقد اجتماعات العمل الإيجابية والمثمرة مع العملاء عبر تطبيق «زووم»، واستمر إبرام مختلف الصفقات عبر أسواق رأس المال، ثم مؤخراً في عمليات الدمج والاستحواذ. ويبدو أن الشركات والأعمال قد تعلمت الدرس من أزمة الوباء الراهنة بأنه ليس حتماً على الجميع الوجود في مكان العمل في الأوقات كافة.
غير أن حياة المكاتب التي انقلبت رأساً على عقب ما تزال تهدد بتعقيد مزاولة الأعمال. فلقد شجع ديفيد سولومون من مجموعة غولدمان ساكس المالية المتداولين مؤخراً على العودة إلى المقرات الرئيسية، مشيراً إلى الأضرار التي ربما تلحق بثقافة المؤسسة إن لم ترجع الأمور إلى طبيعتها الأولى قريباً. وكان سيرغيو إيرموتي الرئيس التنفيذي لشركة «يو بي إس غروب» أكثر وضوحاً عندما قال: «من الصعوبة بصورة خاصة على المصارف خلق وتعزيز التماسك والثقافة المؤسسية، في الوقت الذي يستمر الموظفون في متابعة العمل من منازلهم. إذ لا بد ألا تتجاوز نسبة الموظفين العاملين من المنزل 20 إلى 30 في المائة».
ومن شأن أغلب المصارف أن تسعد برؤية نسبة 20 في المائة من الموظفين على مكاتبهم في الآونة الراهنة. وفي العاصمة البريطانية لندن، تحاول الشركات حالياً العثور على وسيلة لاستقدام مزيد من الموظفين مرة أخرى إلى المكاتب، وذلك بعد تراجع حكومة بوريس جونسون عن توجهاتها الخاصة خلال الأسبوع الحالي والمعنية بضرورة مواصلة الناس العمل من المنازل. وفي خضم ارتفاع حالات الإصابة بالفيروس الفتاك، ربما يواجه أحد أكبر مراكز الخدمات المالية في العالم مزيداً من القيود لمدة 6 أشهر أخرى.
وهناك أسباب تدعو إلى الشك في دوافع مديري المصارف وراء رغبتهم في مزاولة العمل من المقرات الرئيسية. إنهم يفضلون مزاولة الأعمال ضمن معالم المدينة المكتظة بالآلاف من الموظفين. كما أنهم يواجهون مخاطر مالية جمة، إذ إن بعض أكبر تعرضاتهم المالية متعلقة بالعقارات ذات الطبيعة التجارية والإدارية.
ومع ذلك، فإن المصارف العملاقة لديها وجهة نظر معتبرة. فمن خلال أعمالهم مترامية الأطراف، من عمليات الدمج إلى إدارة الثروات، يواجهون صعوبات متزايدة في جذب العملاء الجدد عبر تطبيق «زووم». والأهم من ذلك، فإن الابتعاد عن المقرات والمكاتب له تأثيره المباشر على سلوكيات الموظفين. إذ إن المعايير غير الرسمية التي صاغها المديرون التنفيذيون ويجري تعزيزها من خلال التفاعلات الاجتماعية تشكل في مجموعها أركان الثقافة المؤسسية، وليست القواعد واللوائح المكتوبة في كتيبات الشركة.
إن ردّ الفعل السلبي من الرئيس أو المدير المباشر الذي يوليك اهتماماً خاصاً يبعث برسالة مهمة يصعب تلقيها عندما لا يكون الموظف في الأجواء القريبة. وليس هناك عدد معين من مكالمات الفيديو يقوم مقام ما يتلقاه ويتعلمه الموظفون الشباب من زملائهم بمجرد ملاحظة سلوكياتهم المختلفة في بيئة العمل.
ولقد حذّرت السيدة ميغان باتلر، وهي مديرة الإشراف لدى هيئة السلوكيات المالية البريطانية، مؤخراً من أن الرقابة غير الرسمية، والممارسات الثقافية غير الرسمية التي بدأت تأخذ مكانها في مختلف الأعمال مبنية في الأساس على العلاقات الموجودة مسبقاً. وقالت إنه كلما طال أمد مزاولة العمل من المنزل، ارتفع احتمال التعرض لمخاطر الانهيار.
وهذا هو الوقت من العام الذي يلتحق فيه الآلاف من الخريجين – وهم أكبر مصدر لقبول الموظفين في أعمال المصارف – للعمل في «وول ستريت». إن اللقاءات التي تعقد في وقت متأخر من الليل، وجلسات تدريب فرق العمل، والساعات اللانهائية من إعداد كتب العروض التوضيحية، هي ما تؤهل المنتسبين الجدد إلى تفهم أسلوب عمل المؤسسة التي يعملون فيها. ولقد أعرب لاري فينك المدير التنفيذي لشركة «بلاك روك» مؤخراً أنه يساوره قلق خاص بشأن 400 موظف جديد من الشبان الذين انضموا إلى العمل في الشركة منذ شهر يوليو (تموز) الماضي، ولم يزوروا مقر الشركة على الإطلاق.
ولا يتعلق الأمر بالخريجين حديثاً من الكلية، الذين سوف يكافحون في الفترة المقبلة. حتى الموظف المصرفي الكبير الذي يبدأ العمل من جديد سوف يجد صعوبة كبيرة في فهم كيفية عمل الشركة عند متابعة العمل من المنزل. إن معدل تناوب الموظفين على أساس سنوي، والمهمة الصعبة في استقدام الموظفين الجدد ورفع مستوى الأداء لديهم سوف تزداد سوءاً مع مرور الوقت. ولسوف يتحول التوجيه الإداري إلى أحد أهداف الأداء الرئيسية بالنسبة إلى المديرين.
وإن كان جايمي ديمون من مؤسسة «جيه بي مورغان تشيس» قلقاً للغاية بشأن حالة الاغتراب التي يعاني منها الموظفون أثناء العمل من المنزل، فينبغي لبعض من المؤسسات المنافسة له أن تشعر بمزيد من القلق.
* بالاتفاق مع «بلومبرغ»