الإنسان الثالث لا يحتاج إلى هاتف
بقلم: محمد ناصر المولهي - كاتب تونسي
العالم يتغير بشكل سريع للغاية، الاكتشافات العلمية تتتالى على ضخامتها، والنظريات التي كانت مستحيلة باتت تقترب أكثر من التحقق في الواقع، مثل السفر بسرعة الضوء وبالتالي السفر عبر الزمن، ما كان مجرد خيالات يصبح واقعا، لكن النتيجة ستكون مكلفة ربما، حيث تتطلب التخلي عن الإنسان الحالي، حفيد قرون من التطور البشري.
قبل ثلاث سنوات غامرت شركة “Newfusion” البلجيكية بتجربة زرع شرائح إلكترونية في أيادي الموظفين. الخبر قوبل بالرفض الكلي من منظمات حقوق الإنسان على اختلافها.
ويرى كثيرون أن هذه الخطوة ليست سوى انتهاك لحرمات الأفراد، ولم تنجح تبريرات العملية للشركة في إقناع الرافضين بشدة بأن الشريحة ستساعد على تيسير العمل. حيث رأوا أنه يمكن أن تتحول هذه الشريحة إلى أداة لانتهاك خصوصية الأفراد. وكان الأمر مرفوضا بشكل قاطع قبل أن يبدأ التغيير تدريجيا.
عقول في الأيدي
في السنوات الأخيرة انتشرت الهواتف الذكية من الجيل الرابع إلى أبعد قرى العالم، أغلب الناس اليوم يمتلكون هواتف ذكية، مرتبطة على الدوام بشبكة الإنترنت.
شبكة الإنترنت ليست فقط مواقع التواصل الاجتماعي، وإنما مواقع الأخبار، والتسلية، والقراءة والبحث والتثقف والتعليم وغيرها الكثير.
يوميا يتلقى محرك البحث غوغل ملايين الأسئلة والبحوث، كل يبحث عن ضالته، اسم فنان، عنوان كتاب أو فيلم، عنوان مطعم أو طبيب، طريقة طبخ أكلة، أفضل ممثلة في التاريخ، تعلم السياقة والسباحة، معايير الجمال، الحلول لزواج سعيد، تربية الأسماك.. إلخ من مباحث، لو يصرح بها “الشيخ غوغل” علنًا لغمرتنا الدهشة لطرافة الأسئلة.
الأسئلة التي تطرح على غوغل اليوم مثيرة وغريبة، أسئلة كنا في السابق نخجل من مجرد طرحها على أساتذتنا أو والدينا أو حتى من يجدر أن يكونوا أكبر منا سنا وبالتالي معرفة، وفق المعتقدات السارية حينها، وفي مستوى آخر أسئلة عميقة أو تدعي العمق في فهم الوجود وتفكيك القضايا، التي لم نعد نحتاج إلى قراءة مئات الفلاسفة والكتب لفهمها. لقد تغيرت سبل المعرفة بشكل كبير. لكن سؤال المستوى والكيف والفاعلية المتكاملة ما زال مطروحا.
لا أحد يمكنه الاستغناء عن هاتفه اليوم، سواء كان مستلقيا على سرير، أو جالسا في مقهى، أو مرافقا أهله أو أصدقاءه، وحيدا كان أو وسط مجموعة. لقد دخل الهاتف في وسائل التواصل الأساسية كالجسد واللسان، فهو لم يعد للمكالمات فحسب، بل لالتقاط صور ذكرى، أو المشاركة في نقاش معلومة من خلال النت والتذكير والتعليم والتدريب وغيرها.
لا يُعجز الإنسان المعاصر اليوم أي سؤال مهما كانت غرابته، هل لأنه مثقف موسوعي؟ طبعا لا، فهو لا يحتاج إلى تعلم أو حفظ كل شيء، لا يحتاج إلى أن يكوّن عقلا مثقفا، إذ لديه عقل إضافي في يده، هاتف مرتبط بالشبكة العنكبوتية.
الهواتف لم تعد وسيلة مكالمات، تطورت أشكالها وميزاتها كثيرا، وباتت آلات تصوير وشاشات للفرجة ومذكرات ومنبّها وآلات للحساب وحفظ المعلومات وتطبيقات رياضية وطبية وما لا يخطر ببال، إنها نافذة كبرى على العالم.
أحيانا يشتد النقاش بين المتجالسين، فيحثّ كل منهم هاتفه للوصول إلى المعلومة، أو الاستشهاد بخبر أو صورة أو فكرة من شبكة الإنترنت. الهاتف الذكي إذن عقل إضافي لا يمكن الاستغناء عنه بتاتا، أو تكون ناقصا عضوا.
الإنسان الثالث
تحولت الهواتف الذكية إلى أعضاء حيوية للإنسان المعاصر، قبلنا بهذه الأعضاء مرغمين أو راغبين وهي خارج الجسد، وسنقبل بها بنفس الطريقة في مسار تطورها لتكون مدمجة مع الجسد، وقد تتحول إلى شريحة إلكترونية تتغذى من الدماغ وتزوده بما يحتاجه من معلومات.
إذن مسألة زرع شريحة في الجسم أمر ليس مستبعدا في القريب العاجل، حيث سيكون ذلك فاتحة لمرحلة جديدة، هي مرحلة الإنسان الثالث، أو إنسان سايبورغ، بغض النظر عن التقييمات الأخلاقية. لقد انتهى الإنسان الثاني الذي يعتبر آخر حلقة في مرحلة إنسانية طويلة.
وإنسان سايبورغ هو الإنسان الذي يعتمد على التقنية والتكنولوجيات الحديثة والمكملات الإلكترونية، حيث تثبت له أدوات إلكترونية بشكل دائم في جسمه، وذلك لتعويض بعض الوظائف الحيوية التي يفتقر إليها.
والأمر ليس خيالا وتنظيرا فحسب، فقد استضاف مهرجان “دبي كانفس” منذ أربع سنوات أول إنسان سايبورغ في العالم، وهو نيل هاربيسون، من مدينة بلفاست بإيرلندا الشمالية، الذي يمكنه “سماع” الألوان عن طريق شريحة تم تثبيتها في رأسه بصفة دائمة وهوائي يتدلى من قمة رأسه.
وقد ولد هاربيسون بإعاقة غريبة بعض الشيء، حيث لا يمكنه رؤية جميع الألوان، ولا يمكنه سوى رؤية درجات اللون الرمادي فقط، لذلك قام فريق من العلماء بتثبيت جهاز مبتكر ليتمكن من الرؤية، يطلق عليه اسم “العين الآلية” بعظام الجمجمة خلف رأسه لتعمل بوصفها عينا ثالثة.
الإنسان الثالث ليس خيالا إنه حقيقة نشهدها اليوم في عالم زراعة الأعضاء الاصطناعية مثلا، لكن وإن كانت البداية بدافع الحاجة العضوية أو الملحة، لتعويض نقص جسدي ما، فإن الأمر سيتطور إلى الإنسان الذي لا يعاني من أي نقص، بل هو فقط يطمح إلى مضاعفة قدراته.
الإنسان الثالث إذن إنسان مندمج مع الآلة والتكنولوجيا، طامح إلى أن يكون خارقا. لكن يمكننا أن نتساءل منذ اليوم: أي ضريبة سيدفعها الإنسان في محاولته ليكون خارقا؟ وهل ستتمكن كل شعوب العالم من بلوغ هذه المرحلة المكلفة؟ ألن يخلق ذلك عالمين، قلة خارقين وبقية شعوب تعيش تحت إمرتهم كالقطعان؟