سينمائيات لبنان يوثقن “سردية الحرب” في ذاكرة البلاد

النشرة الدولية –

أسهمت الأزمات اللبنانية المتتالية في ظهور جيل جديد من الفنانين الذين تمكنوا من ترسيخ اسمائهم في مهرجانات السينما العالمية، ومؤخراً، فتحت “قافلة سينمائيات”، التابعة لـ”مهرجان القاهرة للأفلام”، الباب واسعاً أمام المخرجات لعرض إنتاجهن عبر المنصة الرقمية women caravan، وإيصال رسالتهن المتحررة والملتزمة إلى أوسع شريحة من المشاهدين العرب والأجانب.

وتُعد التجربة رائدة، فهي المرة الأولى التي ينظم القائمون على المهرجان السينمائي فاعلياته “أونلاين”، مركزاً على تميز المرأة، والسعي لتكريس وجودها ورسالتها الحقوقية بوجه التمييز.

طالت المعاناة كثيراً من البلدان، وتظل مأساة لبنان لها خصوصيتها، التي شكلت دافعاً ومحفزاً لظهور سينما توثيقية وملتزمة في بيروت. وعاماً بعد عام، تحوّلت الأفلام إلى خلايا في الذاكرة الجماعية للوطن، قدمت سردية عن تاريخ بلد أنهكته الحروب، ومنحت الأمل بقيامة جديدة مصدرها الفن، ومرجعها طموح لا محدود لدى جيل شاب حالم بالتغيير.

يمكن تشبيه قائمة “تحية إلى لبنان: إعادة بناء الذاكرة”، وكأنه بيت بمنازل كثيرة. وعكست مضامين الأفلام صوراً من تاريخ وحياة لبنان المعاصر الذي شكلت مرحلة الحرب الأهلية الخط المفصلي بين زمنين.

وثّقت جوسلين صعب حقبة بداية الحرب الأهلية اللبنانية، وما تخللها من أحداث دامية من خلال فيلم “بيروت لم تعد كما كانت”، حيث وثّقت استباحة الميليشيات شوارع العاصمة اللبنانية بعد عام 1976. أما رانيا رافعي ورائد رافعي، فقد عادا في فيلمهما “استعادة لنضال” إلى عام 1974، وقيام مجموعة من طلاب الجامعة الأميركية في بيروت باحتلال المباني احتجاجاً على رفع الرسوم.

وفي “مملكة النساء” وثّقت دانا أبو رحمة لقصة نساء مخيم عين الحلوة، الواقع جنوب لبنان بين عامي 1984-1982، والروح الاجتماعية والتنظيمية وإعادة إعمار المخيم بعد الغزو الإسرائيلي لبيروت عام 1982.

أما أول أعمال ماري جرمانوس سابا، فقد سلطت الضوء على الثورة المنسية داخل معامل التبغ والشوكولاتة في لبنان إبان فترة السبعينيات من القرن الماضي. وفي “يوميات بيروت” تغوص مي مصري بأعماق الانتفاضة الشبابية التي أعقبت اغتيال الرئيس رفيق الحريري. وفي فيلم آخر، تعود مي المصري برفقة المخرج جان شمعون إلى بيروت في الثمانينيات، عندما لم يكن للأطفال واحة ليلعبوا إلا في المتاريس، وذلك ما ركّز عليه فيلم “جيل الحرب – بيروت” من خلال أحلام ثلاثة أجيال من الشبان.

أما سارة فرنسيس، فقد قدّمت عبر فيلم “طيور أيلول” الاعتراف بإطار عصري من خلال شاحنة زجاجية تتجول في شوارع بيروت، وعلى طول الطريق، تمت دعوة العديد من الأشخاص لمشاركة لحظة شخصية في هذا الاعتراف المتحرك. كل شخص يأتي كوجه، كجسد، كموقف، كصوت، كرأي، كعاطفة، كوجهة نظر، كذاكرة. ولكن سرعان ما باتت الشاحنة فارغة، تتجول في بيروت باحثة دون كلل عن شيء ما لشخص ما.

أما المخرجة عرب لطفي فتحاول إعادة بناء الذاكرة، بدءاً من مسقط رأسها صيدا أعقاب الاجتياح الإسرائيلي. وتستعرض المخرجة روايات عن نفسها، وأقاربها، والمكان الأم صيدا، فيما تبحث المخرجة رين متري من خلال عدستها عن “الفردوس المفقود”، ففي هذا الفيلم تشرع في رحلة بالذاكرة، حيث تبحث في صور زوجها المتوفى، وصور والدتها، وأماكن طفولتها، كما تمزج الماضي والحاضر، باحثةً عن عزاء لها من خلال السينما، ومواجهة الشعور بـالفقدان.

وتقدم إليان راهب في “ليالٍ بلا نوم” اعترافات مسؤول المخابرات السابق بالقوات اللبنانية أسعد الشفتري، ورحلة تطهير الذات من وصمات الحرب الأهلية، في المقابل، تبحث مريم السعيدي عن ابنها الفتى الذي كان مقاتلاً بصفوف الحزب الشيوعي اللبناني، واختفى أثره في عام 1982.

وفي “بانوبتيك” توجه الابنة رسالة إلى والدها المتوفى في محاولة للتصالح مع ماضي بلادها المضطرب. وفي فيلم “لأن الجذور لا تموت” تروي نبيهة لطفي صوراً مؤثرة من حياة النساء الفلسطينيات خلال الحرب الأهلية اللبنانية، والمآسي التي حلت بسكان مخيم تل الزعتر للاجئين الفلسطينيين في ما اصطلح سابقاً بمنطقة شرق بيروت.

إليان راهب، إحدى المخرجات الفاعلات في قائمة “إعادة إحياء الذاكرة”. تؤكد لـ”اندبندنت عربية” أهمية هذه المبادرة، لأن النشاطات الفنية والثقافية أصبحت محدودة في العالم العربي المنكوب. وتعول الراهب على وصول أصوات اللبنانيات إلى العالم، وأن تتم متابعة أفلامهن. وتضع تجربة الـ”أونلاين” في خانة مواكبة التحديات التي فرضتها العصرنة والتكيف مع أزمة الكورونا، وبالتالي فإن هذه المنصة تؤمن الوصول إلى أكبر عدد من المشاهدين حول العالم لمتابعة أفلام ملتزمة القضايا المجتمعية.

فتح الـ”أونلاين” الباب لاستقبال شرائح كانت بعيدة عن السينما التوثيقية وغير التجارية، وتنطلق الراهب من فيلمها “ليالٍ بلا نوم” لتتحدث عن أهمية السينما في تقديم صفحات من الذاكرة اللبنانية في قالب سمعي بصري معاصر.

لا تتوقف أدوار السينما النضالية في لبنان على إعادة إحياء الذاكرة افتراضياً، بل نزلت إلى أرض الواقع في مرج سد بسري. وتمت الدعوة إلى مبادرة “ريف”، حيث امتزجت العروض السينمائية بالجولات البيئية في الطبيعة اللبنانية. وتشير الراهب إلى أن هذا المهرجان ينصبُّ على عروض الأفلام المتعلقة بحياة الريف اللبناني والبيئة.

بدأ المهرجان في النسخة صفر في بلدة القبيات العكارية عام 2018، واليوم يعيش فصلاً جديداً من فصوله في الهواء الطلق إبان أزمة كورونا، وكل التركيز على الخط النضالي الذي بدأه ناشطون بيئيون، وتضمنه فيلم “المرج” الذي يرتبط عضوياً بالخط الدرامي الذي جسده مرج بسري، الذي كان من المقرر تحويله إلى سد مائي.

وفي موازاة أنشطة الهواء الطلق، أطلقت منصة “أفلامنا دوت أونلاين”، التي تعرض 40 فيلماً، وأتاح عرض المحتوى الرقمي توسيع دائرة الأفلام بسبب التحرر من قيود المكان، والزمان، والتوقيت.

يركز العديد من المهرجانات على الجانب النسوي، من خلال تكريس “الكوتة النسائية” لمواجهة سيدة الرجال على المنصات السينمائية، بينما لا تستسيغ المخرجات اللبنانيات هذا الطرح، فقد أثبتن تميزهن، وأحياناً تفوقهن أمام وخلف العدسة. وتطمح إليان الراهب لتجاوز التنميط الجندري و”إطلاق مهرجان الرجل” في رسالة لرفض التمييز، لأن الصراع في مجتمعنا ليس بين رجل ومرأة، بل بين صاحب السلطة القوي والطرف الضعيف، بغضّ النظر عن النوع الاجتماعي.

توضح الراهب أن أجمل أفلامها هي تلك التي وثّقت تجارب الرجال، من فيلم “ليالٍ بلا نوم” مع المحارب أسعد الشفتري، إلى المزارع العكاري هيكل، الذي يعيش في أطراف لبنان المهمشة الذي منحته الكاميرا قوة لإيصال رسالته إلى العالم. تتحدث الراهب عن سلطة الكاميرا وصناعة الصورة والمونتاج التي تمتلكها المخرجة لتوجيه مسار الأحداث.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى