الطبقة السياسية اللبنانية وثورة 17 أكتوبر* فارس خشّان
النشرة الدولية –
عندما يصيبك أي تطوّر بالاضطراب، ثمة نصيحة وحيدة قيّمة توجه إليك: خُذ نفسا عميقا.
هذه النصيحة تصلح، أيضا لشعوب كثيرة في الشرق الأوسط، من بينها، بطبيعة الحال، الشعب اللبناني الذي اقتحم، بقوة، أندية الفقر والحرمان والجوع والمرض والعجز والهجرة غير الشرعية واستجداء المساعدات على أعتاب “قساة القلوب”، وانتظار… معجزة.
ومع حلول الذكرى السنوية الأولى لـ”ثورة 17 أكتوبر”، وفي ظل ثبوت العجز عن إيجاد مخارج منتجة للأزمة الولّادة للكوارث، تأخذ هذه النصيحة، مداها.
إذن، عزيزي القارئ، وقبل متابعتك في تفحّص معاني هذا المقال، عليكَ أن تتقيّد بهذه النصيحة، كما فعلتُ أنا قبل أن أبدأ الكتابة، فخُذ نفسا عميقا!
من الواضح، أن غالبية اللبنانيين التي تُثبت الدراسات أنها غير حزبية، ترى الطبقة السياسية اللبنانية، وهي خليط من المسلّحين والطائفيين، عاجزة عن إخراج لبنان وشعبه من الكارثة التي ألمّت به.
إنّ بداية تدحرج لبنان نحو الجحيم، إنّما بدأ بالتزامن مع تدحرج مستوى مجلسه النيابي
دليل هذه الأكثرية على هذا اليقين هو أن لبنان سقط في الهاوية، على يد هذه الطبقة السياسية بالذات.
ويقتضي المنطق الاعتراف بأنّ من قادك إلى الجحيم يستحيل أن يكون مؤهّلا لقيادتك إلى نقيضه.
ومنذ 17 أكتوبر 2019، يسعى كل طرف في هذه الطبقة السياسية اللبنانية، إمّا الى تبرئة نفسه من المسؤولية عمّا آلت إليه أوضاع البلاد والعباد وإمّا إلى التقليل من حجم هذه المسؤولية، حتى يتوهّم من يشاهد ويسمع ويقرأ ما به ينطقون أنّ هؤلاء منفردين قادرون على إنجاز المستحيل، ولكنّ مشكلتهم تكمن في أنّهم محكومون بالعمل جماعيا.
وتعرف غالبية اللبنانيين، وهي أغلبية غير حزبية، أن هؤلاء كما سبق لهم وكذّبوا، فإنّهم يواصلون الكذب.
التجارب تُثبت ذلك. ما من طرف لبناني إلا وسبق له وحكم منفردا، ففشل، تماما كما فشل، حين كان جزءا من الجميع.
تقديم الأمثلة، في هذا السياق، لا يُجدي نفعا، لأن من شأنه أن يحوّل التشخيص الهادئ إلى ما يمكن أن يعتبره البعض تحاملا على من يميل إليه أو يهواه أو يفضّله.
الأهم أن القوى التي تتشكّل منها الطبقة السياسية أصغر من حجم الأزمة.
ادعاء القدرة على إنجاز الحلول هو مجرد توهّم يعيشه الراغبون بالبقاء على كراسيهم السلطوية أو العاملون على استعادتها.
وبعد تفجير مرفأ بيروت وما أنتجه من مآس، ساعد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على بلورة هذا التوهّم. أعطى كل قوة من هذه الطبقة السياسية ما يُعينها على ضخ الحياة في توهّماتها.
وبفعل سهولة كتابة برنامج العمل “الإنقاذي” ـ وليس فيه أي إبداع لأنه مجرد تجميع لأفكار سبق وطُرحت مئات المرّات ـ ظنّت القوى السياسية، كل من موقعها، بسهولة التنفيذ.
إذن، عبثا الرهان على هذه الطبقة السياسية، حتى لو أحببتَ طرفا فيها، أو فضّلته على آخر. إنّها طبقة أثبتت فشلها وعجزها وأودت بالبلاد والعباد إلى مصيرهم الذي يزداد سوادا، يوما بعد يوم.
إن السعي إلى استرضاء “حزب الله” في مقابل الاستقواء على شركائه السياسيين في البلاد، جعل غالبية اللبنانيين تشعر أنّ هؤلاء الذين يطرحون أنفسهم بدائل إنمّا هم من الطينة نفسها للطبقة السياسية
ولكن، في المقابل، من هو البديل؟
هذا السؤال يستدعي أن نُجدد تنفيذ النصيحة، فنأخذ نفسا عميقا جديدا، قبل أن نبحث في الجواب الأكثر واقعية.
أمّا، وقد أخذنا هذا النفس، فإنّ سؤالا فرعيا، بأهمية السؤال المركزي، يطرح نفسه: لماذا، وبعد مرور سنة على “ثورة 17 أكتوبر”، قرّرت غالبية القوى التي تتشكّل منها الطبقة السياسية أن تبقى في مناصبها أو أن تعود إليها؟
إنّ مجرد طرح هذا السؤال يعني أنّ “ثورة 17 أكتوبر” لم تعد لها أي رهبة، وحتى التأثير الذي كان لها قد تلاشى.
التبريرات كثيرة، بدءا بتحريك الشارع الطائفي ضد الشارع الثوروي، مرورا بإشهار أسلحة الحرب الأهلية، وصولا إلى اختراق الطبقة السياسية للثوّار.
قد يكون كل ذلك صحيحا، ولكن ماذا نقول، والحالة هذه، إنّه عشية الذكرى السنوية لهذه الثورة التي كانت قد ضخّت في نفوس اللبنانيين الأمل بالتغيير، قد أصبح لـ”ثورة 17 أكتوبر”، بمناسبة تحديد موعد الاستشارات النيابية لتكليف رئيس جديد للحكومة، مرشحان: أوّلهما نوّاف سلام وثانيهما عبد الرحمن البزري؟
وماذا تعني تسمية قوى من “الطبقة الثوروية” للبزري سوى الرضوخ لفيتو وضعه “حزب الله” ضد نوّاف سلام، وتقديم اسم من شأنه أن يُرضي هذا الحزب؟
إنّ هذا التوجّه يُمكنه أن يُفسّر سببا أساسيا من أسباب تآكل “ثورة 17 أكتوبر” بعد تكليف حسّان دياب وتشكيل حكومته، على الرغم من النتائج الكارثية التي انتهت إليها.
إن السعي إلى استرضاء “حزب الله” في مقابل الاستقواء على شركائه السياسيين في البلاد، جعل غالبية اللبنانيين تشعر، ولو من دون “أدلجة” أو “تنظير”، أنّ هؤلاء الذين يطرحون أنفسهم بدائل إنمّا هم من الطينة نفسها للطبقة السياسية.
وتعرف غالبية اللبنانيين، وحتى لو لم تبح بذلك، أنّ “حزب الله” هو أحد الأسباب الجوهرية للمأساة التي يعيشونها، لأنّه يتوسّل العنف في تنفيذ سياساته، ولأنّه يسيء إلى علاقات لبنان الخارجية، ولأنّه مُستفِز لمصلحة الطائفية، بقياداته وعقيدته وارتباطاته ومنابره ومطالبه، ولأنّه مشروع حرب لا نهاية لها، ولأنّه حاجِب للدعم العربي والدولي، وكابِح للاستثمار، ومسهّل للفساد، ومانع لإرساء دولة قوية.
إذن، لا حل مرجوا لا من الطبقة السياسية ولا من “ثورة 17 أكتوبر”، فهل هذا يعني أن يقبع اللبنانيون في زاوية اليأس، أو ينتظرون “مجيء غودو”؟
لا، أبدا، فاليأس ليس قدر الشعوب، بل الإبداع.
إنّ المخرج الوحيد للأزمة التي يتخبّط بها لبنان، يتجسّد بإعادة الاعتبار للنظام البرلماني الذي يقوم على المساءلة والمحاسبة
والشعب اللبناني، كما الشعوب التي تمر مثله بأزمات وجودية، مدعو إلى إعادة إحياء ثورته، بتنظيف نفسها بنفسها، تحقيقا لهدف واحد لا غير، وهو السعي إلى تغيير ديمقراطي للطبقة السياسية.
إنّ إنجاز ذلك، يكون من خلال فرض قواعد ترعى معايير النزاهة والمساواة والمواطنية في قانون الانتخابات، حيث تعتبر، على سبيل المثال لا الحصر، الخطابات الطائفية، من أي جهة صدرت، لاغية لنتائج الانتخابات.
إنّ المخرج الوحيد للأزمة التي يتخبّط بها لبنان، يتجسّد بإعادة الاعتبار للنظام البرلماني الذي يقوم على المساءلة والمحاسبة، فالحكومات التي تفشل، لا تسقط بـ”أمر عمليات”، بل في مساءلة شفّافة في المجلس النيابي، والوزراء الذين يشتبه بتقصيرهم أو بفسادهم، لا ينجون بارتمائهم في أحضان هذه الطائفة أو ذاك الزعيم، وحملة السلاح لا يسيطرون على الدستور، بل الدستور يحدّد مصيرهم، ورؤساء الجمهورية لا يُنتخبون بضغط الفراغ، بل بإرادة الشعب الذي انتخبهم ولم يصنعهم استزلامهم المذهبي والقبائلي.
إنّ بداية تدحرج لبنان نحو الجحيم، إنّما بدأ بالتزامن مع تدحرج مستوى مجلسه النيابي.
ثمة من يرى أن هذا الحل ـ المخرج صعب. هذا صحيح، ولكن السعي إليه ليس أصعب من استسلام الشعب لتيّارات تجرفه جرفا الى الجوع والحرمان والقتل والموت والاندثار.