الصخرة لها مقامها في التشكيل الفني والتعليم المدرسي

النشرة الدولية –

العرب – ميموزا العراوي –

إن الادعاء بأن الفن لا يلتقي مع السياسة خاطئ بشكل كلي، حيث أن الفن في عمقه نوع من السياسة. فهو ينحاز بالضرورة إلى الإنسان، والمظلومين خاصة، ويقدم رؤاه حول الحياة والوجود والبشر وغيرهم من الكائنات ومن عناصر الطبيعة. فالفنان إذن رؤية وموقف قبل أن يكون مراقبا من برج معزول عن العالم.

من الأبيات الشعرية الخالدة والأكثر شهرة للشاعر الفلسطيني محمود درويش “هزمتْك يا موت الفنون جميعها../ النقوش على حجارة معبد هزمتْك وانتصرتْ/ وأفْلتَ من كمائنك الخلود”.

أبيات نستعيد وهجها اليوم من خلال ثلاث لوحات للفنان الفلسطيني سليمان منصور وعبر مناسبة احتفال بيوم الأرض على طريقة الكاتب القصصي الفلسطيني ومُعلم الأجيال زياد خداش.

الفنان التشكيلي الفلسطيني سليمان منصور الذي ساهم بشكل كبير في إرساء ثقافة الوجود الفلسطيني عبر تمكينه عالميا من خلال نشاطه الفني المتجدد إلى يومنا قدم عددا هائلا من اللوحات، ومن بينها ثلاث لوحات رسم في كل منها صخرة، لا مُغالطة في تسمية جميعها بصخرة الأقصى.

أعطى الفنان لإحدى هذه اللوحات اسم “جمل المحامل”، كان قد رسمها في منتصف السبعينات فانتشرت عالميا وعنت الكثير لشعوب هذه المنطقة.

ظهر في اللوحة عجوز فلسطيني يتوسط فضاءها ويحمل القدس وصخرة الأقصى على ظهره، مربوطة “بحبل الشقاء” ومتجها إلى مجهول تركه الفنان للزمان، كي يحسم ماهيته.

قال الفنان عن هذه اللوحة “تحولت اللوحة إلى رمز للنضال الفلسطيني.. وكانت النسخة الأصلية  فقدت في القدس القديمة، ورسمت نسخة ثانية عام 1975، وبيعت في معرض في لندن. على الأرجح أن هذه النسخة دمرت في غارة جوية أميركية على ليبيا عام 1986. أما العمل المباع في دبي، فهو النسخة الثالثة من اللوحة، وقمت بإضافة بعض التغييرات الطفيفة على النسخة الأصلية.. أحد الأسباب الّتي جعلتني أعيد رسم اللوحة رغبتي في إعادة امتلاكها”.

يُذكر أنه منذ ثلاث سنوات عمد النحات العراقي أحمد البحراني إلى تقديم جدارية ومنحوتة من البرونز لبطل لوحة سليمان منصور إقرارا باستمرارية التمسك بالهوية الفلسطينية في الذاكرة الجماعية العراقية بشكل خاص والعربية بشكل عام.

للفنان الفلسطيني لوحة أخرى ظهرت فيها “الصخرة” بكل ما تختصره من صبر وتعزيز الانتماء إلى الهوية الفلسطينية؛ لوحة ظهرت فيها امرأة تنضح بالعنفوان بزيها الفلسطيني التقليدي وهي تحمل مدينة القدس بجدرانها الحجرية العريقة فوق رأسها بخفة وكأنها حِمل دأبت على حمله حتى احترفت ذلك بهدوء وتوازن قل نظيرهما.

أما اللوحة الثالثة فهي تلك التي تمثل امرأة تحتضن كُرة كريستالية وصخرية في آن واحد تشف منها مدينة القدس تحت طبقات دفاعية غليظة من الكريستال المصقول. وقد أطلق الفنان على هذه اللوحة اسم “المعرفة”.

اللافت جدا أن الصخرة حاضرة في معظم لوحات الفنان وليس حصرا بشكلها الخارجي بل كمادة خام تمنح الصلابة لأجساد النسوة دون أن تفقدهن شيئا من أنوثتهن بل على العكس.

أُضيفت إلى هذه “المادة” الفلسطينية النبيلة مواد أخرى من البيئة الطبيعية الفلسطينية إبان اندلاع الانتفاضة الأولى عندما  قرر الفنان ومجموعة من أصدقائه الفنانين مقاطعة المنتوجات الإسرائيليّة.

حول ذلك قال سليمان منصور”استخدمت موادّ من محيطي، كالطين والتبن، وهذا أحدث تغييرًا على أسلوب الرسم.. فصار الرسم يميل إلى التجريد والتبسيط. وعوضًا عن رسم المشهد الطبيعيّ، بدأت أرسمه بمادّته”.

هذه المواد النبيلة من طين وتبن وصخر التي جسدت الولاء لفلسطين في أعمال هؤلاء الفنانين وجدت إحداها طريقها إلى صف مدرسي من صفوف القصصي ومعلم الكتابة الإبداعية زياد خداش لتكون عملا فنيا مفهوميا بأتمّ معنى الكلمة ومحورا لكوكبة من الطلاب في مدارس رام الله بمناسبة “يوم الأرض” المُحتفى به وجدانيا وظاهريا في فلسطين وخارجها.

الصخرة حاضرة في معظم لوحات سليمان منصور وليس حصرا بشكلها الخارجي بل كمادة خام تمنح الصلابة للأجساد الصخرة حاضرة في معظم لوحات سليمان منصور وليس حصرا بشكلها الخارجي بل كمادة خام تمنح الصلابة للأجساد

زياد خداش بكلمات قليلة هو أولا كاتب قصة قبل أن يكون معلما مدرسيا. ولد في مدينة القدس عام 1964. في رصيده اثنتا عشرة مجموعة قصصية. تميز عن سائر الأساتذة بأسلوبه غير التقليدي للتعليم المُثمّن لتحفيز الخيال والتشجيع على التحلّي بقيمة الحرية عند الطلاب خدمة لأفكار سامية أو تدريبا وتمكينا لقوة التعبير الشخصي.

بمناسبة يوم الأرض نشر زياد خداش على صفحته الفيسبوكية عددا من الصور المؤثرة، التي  تبدو أغلبيتها كأنها خارجة من عالم الصورالمنتمية إلى تيار الواقعية السحرية في الفن. ظهر في هذه الصور طلابه يريحون رؤوسهم، كل لوحده، على صخرة من البيئة الطبيعية الفلسطينية في محاولة إصغاء لما تهمس لهم من خواطر أو ذكريات.

إنه عمل إبداعي/ فني مزدوج يخص طلاب صفه المتشوقين دائما إلى حصصه التعليمية ويخصنا نحن كمشاهدين لصور تنطق ببعد فني ووجداني عميق؛ بُعد لطالما سكن لوحات الفنان سليمان منصور. وتحيلنا هذه الصور إلى ما قاله مؤخرا الفنان حول الجيل الجديد؛ قول ينسحب، اليوم أكثر من أي يوم مضى، على الجيل العربي بأسره وليس فقط على اليافعين الفلسطينيين من أدباء وشعراء وفنانين.

فقد قال “أنا متفائل بشأن مستقبل الفنّ الفلسطينيّ، على الرغم من ملاحظتي وجود خطر معيّن على الفنّانين الشباب. ثمّة ما نفقده الآن، مقارنةً بفترة السبعينات والثمانينات. أهمّه الانتماء الوطنيّ. لقد بَهُتَ. حين يَبْهَت هذا الانتماء يَبْهَت كلّ شيء. ثمّة فنّانون يحاولون عزل أنفسهم عن السياسة، السياسة وراءَكم وراءَكم، لا تستطيعون الهرب منها. أمّا حجم الظلم الحاصل في هذا العالم فيجعل المسألة أكبر من أن تختار. المسألة حاضرة رغمًا عن أنوفنا”.

إنها دعوة مشتركة من مربي أجيال وفنان إلى التأمل في مستقبل قد يبدو قاتما اليوم ولكنه ليس كذلك إن أدرك أهل الفن بأنواعه، اليوم أكثر من أي يوم مضى، خطورة ما أشار إليه الشاعر محمود درويش حين وصّف الحاضر أدق توصيف قائلا “لا القوّة انتصرتْ/ولا العدْل الشريد”.  والشاعر، في كلامه هذا يستحضر كل قوة أثيرية تمكنه وتمكن الفلسطيني من أن “يصير يوما ما يريد” أما كيف يمكن ذلك في ظل تكاثر الخيبات؟ فيجيب الشاعر” لم يمتْ أحد تماما، تلك أرواح تغيّر شكْلها ومقامها /هزمتك يا موت الفنون جميعها”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى