الموت يُغيب فنانة تونس الأولى السيدة نعمة بعد صراع مع المرض
النشرة الدولية –
غيب الموت، قبل أيام، فنانة تونس الأولى السيدة نعمة عن عمر ناهز الـ86 عاما وذلك بعد صراع مرير مع المرض لتكون بذلك آخر حبة من عنقود الزمن الجميل، التي ترحل تاركة وراءها أثرا كبيرا يصعب تجاوزه.
ولئن كان هول الفاجعة التي استفاق عليها التونسيون صباح الأحد الماضي كبيرا بوفاة نعمة، فإنها كانت مناسبة التقى فيها التونسيون باختلاف مشاربهم وتوجهاتهم حول الإجماع على قيمة أشهر المطربات التونسيات التي تلألأ نجمها في بلادها وعلى الساحة العربية والعالمية.
ونعت وزارة الشؤون الثقافية “فقيدة الفن التونسي المطربة القديرة السيدة نعمة التي وافتها المنية بعد صراع مع المرض”. رئيس الحكومة التونسية، هشام المشيشي، حضر موكب تأبين الراحلة في مدينة الثقافة حيث استحضر ’’مسيرتها الفنية الخالدة‘‘ مضيفا أنها ’’خاطبت جميع الشرائح العمرية وهي التي غنت كل الألوان الطربية تاركة إرثا فنيا يفوق حدود الوصف‘‘. وعدّد المشيشي خصال نعمة، باعتبارها كانت قريبة جدّا من التونسيين من خلال مختلف المناسبات كالأفراح العائلية والمهرجانات وإطلالاتها الإذاعية والتلفزية.
ولدت حليمة الشيخ، والتي صار اسمها نعمة، وباتت فعلا من النعم التي حظيت بها تونس، في قرية أزمور قرب مدينة قليبية التابعة لمحافظة نابل شمال شرق البلاد، في العام 1934 حيث نشأت قبل أن تتحول في وقت لاحق إلى فنانة تونس الأولى برصيد فني تجاوز الـ360 أغنية. وبات من الصعب حصر أعمال نعمة، إذ تقول مصادر فنية أن لها حوالي 800 أغنية حتى أنها قالت في إحدى إطلالاتها الإعلامية ’’لم أعد أدري كم غنيت من أغنية. لقد نسيت العديد من الأغاني‘‘.
انتقلت إلى العيش في العاصمة، وبالتحديد في نهج الباشا، إثر انفصال والديها، ما جعلها تُرافق أمها وخالها إلى هناك، حيث تم اكتشاف قدراتها الفنية التي خولت لها أن تجوب بعد ذلك أشهر المسارح العربية وحتى الأوروبية.
السيدة نعمة لم تتوقف، في جميع إطلالاتها الإعلامية، عن التحسر على فترة حكم الرئيس الراحل بورقيبة، واصفة إياه “بالرئيس الذي يقدر قيمة الفنانين التونسيين”. السيدة نعمة لم تتوقف، في جميع إطلالاتها الإعلامية، عن التحسر على فترة حكم الرئيس الراحل بورقيبة، واصفة إياه “بالرئيس الذي يقدر قيمة الفنانين التونسيين”.
وبدأ صيت نعمة ينتشر بعد اكتشاف قدراتها الفنية وهي في سن الحادية عشرة بعد أن أدّت أغنية “صالحة” التي لا تزال تُردد على كل لسان اليوم وخاصة من المبدعين الذين يشدهم الزمن الجميل الذي برزت فيه نعمة إلى جانب كبار المطربين والمطربات التونسيين والعرب.
وتزوجت نعمة في سن السادسة عشرة، وأنجبت 3 أبناء. وكان أول ظهور لها أمام الجماهير التونسية خلال حفلة خيرية لفائدة جمعية المكفوفين. تلك الحفلة كانت فرصة لنعمة لتبرز مع قامات أخرى على غرار عُليّة، وكانت الانطلاقة لبقاء اسمها محفوظا ومحفورا في ذاكرة التونسيين لما قدمته للفن التونسي، حيث كانت تُلقب بـ”المطربة الأولى” في فرقة العصر التي كان يقودها آنذاك الفنان حسن الغربي الذي يعدّ من أكبر رواد عازفي القانون في تونس.
بعد تلك السهرة التي غنت فيها نعمة أغنية ’’حبيبي لعبتو‘‘، وهي أغنية أطربت الجمهور، كانت على موعد مع دخول المعهد الرشيدي، فانضمت إلى فرقته التي تأسست في ثلاثينات القرن الماضي، وأصبحت نعمة في ما بعد إحدى أبرز مطرباتها.
هناك أيضا لقبها الملحن صالح المهدي بنعمة، ولحن لها العديد من الأغاني العاطفية على غرار ’’الليل آه يا ليل‘‘ و’’يا ناس ما أكسح قلبه‘‘ وغيرهما من الأغاني التي جعلت في ما بعد اسم نعمة يرتبط باسم المهدي. لحن لها أيضا خميس ترنان العديد من الأغاني، من بينها ’’ما احلاها كلمة في فمي‘‘ و“شرع الحب“ وغيرهما. ولاقت أغاني نعمة نجاحا ورواجا كبيرين، خاصة وأن الإذاعة التونسية الرسمية آنذاك كانت تبث أغاني الفرقة الرشيدية.
الإهمال الذي يلحق بالفنانين التونسيين الكبار من قبل الإعلام الوطني، طال حتى رموز الأغنية التونسية على غرار عليّة وعلي الرياحي، وكأن أهل البلد يفرّطون في كنوزهم حتى يرحلوا. الإهمال الذي يلحق بالفنانين التونسيين الكبار من قبل الإعلام الوطني، طال حتى رموز الأغنية التونسية على غرار عليّة وعلي الرياحي، وكأن أهل البلد يفرّطون في كنوزهم حتى يرحلوا.
أهلها نجاحها لتصبح الفنانة الأولى المطلوبة شعبيا، فأقامت العديد من الحفلات في بلادها إلى أن دخلت الإذاعة التونسية كمطربة رسمية وذلك سنة 1958 معثلة من المطربات التونسيات على غرار صليحة وعُليّة ونادية حسن، لتركب بذلك قطار الشهرة الذي أوصلها إلى العديد من المحطات العربية والعالمية.
ففي العام 1966 كانت أول مصافحة بين نعمة وجمهورها العربي وذلك في مهرجان انتخاب ملكة جمال العرب ببيروت، حيث شاركت فيه ضمن وفد الإذاعة. كما حطت الرحال في مهرجان ألفية القاهرة عام 1969 حيث أبهرت الجمهور هناك ما جعل الأديب والشاعر صالح جودت يكتب عنها في مجلة الكواكب المصرية، قائلا ”الواقع أنني لم أكن أعرف في تونس هذه الثروة الفنية الكبيرة، وهذه الطاقة الضخمة من الألوان الغنائية ولاسيما صوت المطربة العظيمة نعمة التي تتميز فوق عذوبة الصوت بالحركة والحيوية على المسرح وبالتعبير الثري على قسمات الوجه وبالقدرة الفائقة على تحريك الجماهير‘‘.
وتابع الشاعر المصري ’’على الكثير من مطرباتنا أن يتعلمن من نعمة هذه الخصائص لأن الغناء ليس مجرد عذوبة في الصوت وإنما عذوبة الصوت لا بد لها من إطار فاخر كإطار نعمة حيث يتلألأ منها الأداء الحي‘‘.
ومع سطوع نجمها على الساحة العربية أقامت نعمة علاقات متينة مع كوكب الشرق أم كلثوم وفيروز والعندليب الأسمر عبدالحليم حافظ وسيد مكاوي الذي بدوره لحن لها الكثير من الأغاني، إلى جانب حسن عريبي من ليبيا وغيرهم من كبار الموسيقيين العرب والتونسيين.
“كنا في كل مناسبة نسهر على اللحن والأداء والكلمة” بهذه الكلمات وبنبرة من الحسرة تحدثت نعمة ذات مرة للتلفزيون الرسمي التونسي، وذلك في معرض ردها على علاقتها بالزعيم الراحل الحبيب بورقيبة الذي أسال افتتانه بفنانة تونس الأولى الكثير من الحبر على الورق، حيث كان بورقيبة يبكي عندما تغني نعمة في الحفلات التي تقام للرئيس سواء بمناسبة عيد ميلاده أو غيرها من المناسبات.
وقالت آنذاك أيضا ’’كان الملحن الشاذلي أنور يرى في بورقيبة مثالا له فغنيت له في فترة 1961 و1962: يا حبيب تونس، ثم: فرحنا بميلادك يا زعيم الخضراء، في عيد ميلاده الذي يصادف 3 أوت‘‘.
وفي جل الإطلالات الإعلامية أو الحوارات الصحافية التي أجرتها، كانت نعمة تتحسر على فترة حكم الرئيس بورقيبة واصفة إياه ”بالرئيس الذي يقدر قيمة الفنانين التونسيين“، مشيرة إلى أن هؤلاء تُركوا جانبا بعد رحيله حيث أصبحت السلطات تبجل الفنانين الأجانب أكثر. ووصلت علاقة نعمة ببورقيبة، الذي كان يولي مكانة هامة للفن، إلى حد تقديمها أناشيد وقصائد لـ”المجاهد الأكبر”، أبرزها تلك التي قدمتها له بعد جولته العربية وزيارته لأريحا حيث توجهت نعمة لبورقيبة بالقول ’’دُم في علاك فحاسدوك حطام‘‘.
وكانت نعمة تقول ’’لقد كان بورقيبة يحبني كثيرا ويحب كل الفنانين التونسيين. معنوياتنا تُرفع بوجوده، فقد كان ملما بالفن والفنانين‘‘ في إشارة إلى تشجيع الرئيس الحبيب بورقيبة للفن والفنانين. ظلت نعمة وفية لبورقيبة وما أنجزه حيث وجهت إلى الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي عند توليه السلطة رسالة تدعوه فيها إلى “الحفاظ على الأمانة التي تركها بورقيبة” في إشارة إلى تونس.
لقب نعمة يعود الفضل في إطلاقه عليها إلى الملحن صالح المهدي الذي لحن لها العديد من الأغاني العاطفية مثل “الليل آه يا ليل” وغيرها من الأغاني الخالدة. لقب نعمة يعود الفضل في إطلاقه عليها إلى الملحن صالح المهدي الذي لحن لها العديد من الأغاني العاطفية مثل “الليل آه يا ليل” وغيرها من الأغاني الخالدة.
وقالت في حوار مع صحيفة “الشارع المغاربي” المحلية إنها كانت تحظى، إلى جانب الفنانين التونسيين، باهتمام كبير في عهده، مشيرة إلى منعها من السفر في فترة حكمه قائلة ’’كنت أحظى بحب واهتمام كبيرين من وزير الثقافة الأسبق الشاذلي القليبي والوزير الأول محمد مزالي فالأول منعني من السفر بدافع الخوف عليّ. أذكر أنه قال لي: أنت مِلك لتونس”.
وأضافت ’’أما الثاني فقد خصص لي مساحة إذاعية على المباشر، في كل سهرة خميس لبث أغانيّ، حتى يتشبّع الجمهور بالفن التونسي ويكون على دراية بالإنتاجات التونسية.. أرجو أن تتكرر مثل هذه المبادرات لفائدة جمهورنا ويتابع أغانينا ولا يضطر إلى ترديد كلمات أغاني الفنانين الأجانب فقط في المهرجانات الصيفية”.
وبالرغم من موجة الانتقادات اللاذعة التي رافقت انتفاضة 14 يناير 2011 لمغنين تونسيين بسبب علاقاتهم مع نظام الرئيس الراحل زين العابدين بن علي وكذلك بورقيبة غير أن نعمة كانت دائما تشدد على أنها لم تغن للأنظمة بل للشعب التونسي وبلادها.
وقالت في حوار آخر مع صحيفة الصباح المحلية ’’غنيت لتونس وشعبها ولم أغن لأنظمة.. غنيت في مهرجان قرطاج والحمامات وغيرهما ولم أتقاض أموالا كما أبناء جيلي لأننا كنا نؤمن بأن المطلوب منا هو الارتقاء بأغنيتنا، وفي المقابل كنا نكتفي بما يؤمن لنا حياة كريمة فحسب‘‘.
شكت نعمة مرارا من الإهمال الذي لحقها من قبل الإعلام الوطني، وهو إهمال طال حتى رموز الأغنية التونسية على غرار عليّة وعلي الرياحي، وكأن أهل البلد يفرّطون في كنوزهم حتى تتساقط حبات تلك الكنوز الواحدة إثر الأخرى.