عودة سعد الحريري… المُدهشة!* فارس خشّان
النشرة الدولية –
أبدت غالبية التعليقات الصحافية الغربية “دهشتها” من تكليف سعد الحريري تشكيل الحكومة اللبنانية الجديدة، بعد سنة تقريبا على استقالته تحت وطأة “ثورة 17 أكتوبر”.
و”الدهشة” مبرّرة، فالحريري، بالنسبة لهؤلاء المعلّقين، يرمز إلى طبقة سياسية “أثبتت عجزها” و”قادت لبنان إلى الجحيم” و”ثار ضدّها اللبنانيون” وتمّ التشهير بها من على أهم المنابر الدولية.
لكنّ هؤلاء، في “اندهاشهم”، يقفزون فوق حقيقة ثابتة، وهي أنّ السياسة اللبنانية، بكل معاييرها، “مدهشة”.
وهذا يعني أنّ ما يجب أن يُثير الدهشة في لبنان، ليس تكليف سعد الحريري، بل أن يستطيع هذا البلد، يوما، التخلّص من المعادلات التي تتجذّر فيه.
بالاستناد إلى هذه المعادلات التي لم تتمكّن “ثورة 17 أكتوبر” من اقتلاعها، فإنّ عودة سعد الحريري إلى الحلبة الحكومية “أمر بديهي”، فهو جزء من كل، في نظام لا يستمد شرعيته التأسيسية من الدستور، بل من الطائفية.
وفي هذا السياق، وبعد استقالة سعد الحريري، قبل سنة، في ضوء شعار “كلّن يعني كلّن”، حصل رئيس الجمهورية العماد ميشال عون على دعم من أعلى مرجعية دينية مارونية، في حين كانت صرخات “شيعة. شيعة. شيعة” ترسيخا لاستمرارية نبيه برّي في رئاسة مجلس النواب، وتوكيدا على تفوّق سلاح “حزب الله” على الشعب والمؤسسات.
ولأنّ الواقع اللبناني كذلك، وجد سعد الحريري نفسه، بصفته الأكثر تمثيلا للطائفة السنية في لبنان، “المرشح الطبيعي” لرئاسة الحكومة، وسط تسليم سياسي بذلك، هنا، وترحيب سياسي، هناك.
المعادلات التي سوف تتحكّم بتشكيل الحكومة ترتبط ارتباطا وثيقا، بطبيعة الإدارة الأميركية المقبلة
ومنذ استقال الحريري، في التاسع والعشرين من أكتوبر 2019، كان المرشح الدائم للأكثر تمسكا بمعادلة الحكم الحالية، أي “الثنائي الشيعي” المتمثّل بـ “حركة أمل” و”حزب الله”.
واعتُبر حسّان دياب الذي ترأس حكومة ما بعد 17 أكتوبر ممثّلا لـ “حزب الله” و”التيار الوطني الحر”، في إطار انقلابهما على “الشرعية السنية”.
وعزا البعض فشل هذه الحكومة، ليس إلى عجزها وإلى تدثر فئة سياسية وراء أقنعة الاختصاصيين، بل إلى نقص في “شرعيتها” الطائفية.
ولم يتوقّف نبيه برّي، يوما، عن التعاطي مع الحريري على أساس أنّه “رئيس الحكومة البديهي”، فيما طالب الأمين العام لـ “حزب الله”، مرارا وتكرارا، بوجوب أن يكون الحريري نفسه رئيسا للحكومة، على قاعدة “وجوب مشاركته الآخرين المسؤولية عمّا آلت إليه أوضاع البلاد”.
وحين زار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لبنان، مبادرا، إنّما انطلق من أنّ الواقعية تقتضي “إرضاء” الطبقة السياسية اللبنانية، لترعى هي “العملية الإنقاذية”.
وقد أفادت هذه المبادرة الفرنسية الطبقة السياسية، بحيث حمتها من حمم انفجار المرفأ، فانتقل التركيز الشعبي من الاهتمام بالمسؤوليات السياسية عن الكارثة التي عصفت به، إلى حلم الإنقاذ بتوهّم القدرة على سحب السلطة من الطبقة السياسية إلى طبقة الكفاءة والاختصاص والاستقلالية.
في الواقع، لم يكن مصطفى أديب الذي تمّ تكليفه تشكيل حكومة “المبادرة الإنقاذية” إلا جسرا مؤقتا، تمّ توسّله، من أجل أن تتمكّن الطبقة السياسية اللبنانية من العبور مجددا إلى مواقعها الكلاسيكية.
وليس في كل ذلك ما يُثير الدهشة بل الإحباط، لأنّ غالبية اللبنانيين عادت إلى نقطة البداية، أي إلى الصمت الميداني، وباتت تنشد الخلاص من أعنف أزمة تعصف بها، حتى، ولو على أيادي هؤلاء الذين سبق لها ووجّهت إليهم أعنف الاتهامات.
إنّ الغالبية الشعبية لم تنجح في إيجاد بدائل مقنعة فتقهقرت، في مقابل طبقة سياسية قاومت، بكل ما أوتيت من قوة، من أجل أن تحافظ على نفسها وعلى أدوارها وعلى مكاسبها.
ومع “تقهقر” الغالبية الشعبية” في الميدان، إلى أين يتّجه لبنان سياسيا؟
من البديهي أن يتوقّع كثيرون أنّ الحكومة اللبنانية لن تتشكل قبل انتهاء الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة الأميركية.
وهذا يعني أنّ المعادلات التي سوف تتحكّم بتشكيل الحكومة ترتبط ارتباطا وثيقا، بطبيعة الإدارة الأميركية المقبلة.
إنّ استمرار الرئيس الأميركي الحالي دونالد ترامب في منصبه، لولاية ثانية، يعني أن سياسة “الضغط القصوى” على إيران وأذرعتها في المنطقة، ومن بينها “حزب الله”، ستتواصل.
من شأن هزيمة ترامب أن تُريح الأوروبيين عموما والفرنسيين خصوصا، ممّا يُسهّل حركتهم التسووية في لبنان الذي يريدون تثبيت حضورهم فيه
وفق هذا السيناريو، فإنّ الحكومة الجديدة، لتكون مقبولة عربيا ودوليا، يجب أن تُبعد الحزب عنها، الأمر الذي سيخلق تحدّيات من شأنها أن تُجهض ولادتها وتضطر الحريري إلى الاعتذار عن التشكيل.
أمّا إذا فاز المرشح جو بايدن، فإنّ تشكيل الحكومة سيكون أسهل، على اعتبار أنّ الفترة الانتقالية، ستكون “فترة سماح” تُساعد الطبقة السياسية على أن تتفاهم على تشكيل حكومة، وفق المعادلات السابقة لـ 17 أكتوبر 2019، ولو بوجوه تكنوقراطية.
والرئيس سعد الحريري، أثبت، وفق التجارب، أنّه “رجل التسويات”.
ومن شأن هزيمة ترامب أن تُريح الأوروبيين عموما والفرنسيين خصوصا، ممّا يُسهّل حركتهم التسووية في لبنان الذي يريدون تثبيت حضورهم فيه.
على أي حال، إنّ الطبقة السياسية اللبنانية سجّلت نقطة مهمة لمصلحتها، بعودة الحريري، ولكن هذا لا يعني أنّ “الأكثرية الشعبية” التي خرجت، قبل سنة، إلى الشارع قد “انتهت”، فهي، في لحظة لا يُدركها أحد ولسبب لا يتوقعه أحد، قد تعود أقوى ممّا كانت، لأنّ جمرها لا يزال متّقدا تحت الرماد، ولأنّ خلاص لبنان، وفق المعادلات القديمة ـ الجديدة، من سابع المستحيلات.