“خربة مسعود” لمنصور عيد: الصراع الدامي على أرض وطن يبتلع الضحايا
النشرة الدولية –
“النهار اللبنانية” – يوسف طراد –
لا بدّ لمن يقرأ رواية الدكتور منصور عيد “خربة مسعود”، أن يشعر بوقعها المختلف، فتختلج لها عواطفه وتنطبع في نفسه، ذلك أنّ هذه الرواية قُدّت من عذابات وأسفار وحروب، فكانت بدايتها هجرة ونهايتها وفيّات.
في هذه الرواية (مطابع معوشي وزكريا) سبر الكاتب أغوار النفس البشريّة، محرّكًا مجسّات الأعصاب التي تستحضر الحنين، والتي قادت خوسيه إلى وطن قيد الاحتضار. يكمن سرُّ ألق الجد يوسف مسعود في رفقته للعصافير والشجر، في شقاوته طفلًا سارحًا في جوار خربة في جبل الريحان. حزنه على والدته التي غادرت روحُها الجسد مع مغادرته أرض الوطن، تشظّى في عروقه فجرى في دمائه. إلّا أنّه توسّم الخير في حفيده، فعانق الأمل في مقدرته على إنزال هذا الهمّ عن وجنتيه المتعبتين. ذلك الحفيد الذي أصابت منه شظيَّة دم جدّه الحزين مقتلًا، إذ انطبعت في نفسه ذكرياتُ هذا الجدّ المهاجر إلى البرازيل حكاياتٍ مشوّقةً، وَشمَت في كيانه طبيعة لبنان كما صوّرتها مخيلته التي استوطنت أمكنة محبَّبة لروحه، فسعى لتحقيق حلم جدِّه في الرجوع الى تلك الديار وتنشّق غبارها المقدّس. تَعَب الحقول وفَرَح الجنى، سحر الأمكنة وابتهال الأرواح للخالق، حملها خوسيه في سلّة من خيالٍ، حاكها جدّه من قصب الفراغ النفسي. وحين حان الوقت، تجسّدت الأمنيات حقيقة في ربوع الوطن خارج كآبة الغربة، متخطّية الممنوع.
نقش الكاتب النبض في قلب الكلمات، أسند الخيال الخصب مع الحنين إلى الخربة، فأتاح إشباع فضول القارىء لمعرفة النهاية، إلى حين تفكيك شيفرة العيش المشترك المشتعلة المربكة. فحجم الأوطان لا يقاس بمقاييس المساحة، بل بعرق الجهد ودم الاستشهاد: “يوم كانت أهداف الموت، في هذه البلاد، ترتفع إلى مراتب العشق المقدّس”. لذلك كان الوطن بيدرًا صغيرًا تطايرت منه السعادة غبارًا تنشقه الجدّ، فبدا أوسع من بلاد العم سام ومحيطها: “لكن أميركا في عقول كثيرين من المقيمين على تراب هذا الوطن الصغير، هي أرض لا تتعدى مساحتها حقلة العدس التي يرعى فيها قطيع الغنم”. فيوسف غادر لبنان بجسده لكنَّ روحه بقيت مقيمة في ربوع لا تشابهها ربوع.
الوطن لوحة (بازل)، خيّم لون زهر شجرات “الزمزريق” على مجمل أقسامها، فوجد خوسيه بطل الرواية حفيد يوسف مسعود “نفسه تحاكي أرواح أسلافه الفينيقيّين الذين استخرجوا هذا اللون الروحاني من صدفة الموركس”. ورغم تحذيرات السفارة وسائق التاكسي وعامل الاستقبال في الفندق الذي نزل فيه، أصرّ على اختراق حدود الدويلات ضمن الدولة العاجزة، غير آبه لغموض الخطوط التي تحدِّدُها بسبب العمليات العسكرية المتداخلة بين كرٍّ وفرٍّ، ضمن نطاق تماس القوى المتصارعة. لم تكن هذه الخطوط وحدها تحدد مناطق الرَّوع، بل كان الرعب مسيطرًا على كلّ الأرجاء. بعد وصول خوسيه الباحث في التاريخ والأستاذ في جامعات البرازيل بأعجوبة إلى خربة جدّه يوسف مسعود، عاجله قدر حيك بعناية قدير، فاختطفه عناصر أحد الأحزاب وسُجن بتهمة العمالة مع إسرائيل.
لكن ما لبث أن انعتق الشَّغِف المأسور في زنزانة عند انكشاف قناع السجّان، سجّانته التي عشقته، وقدّمت له، مع طعامه اليومي، أطباقَ الفكر من كتب متعدّدة المواضيع، ترقرق همسها خشوعًا بين ضلوعه. امرأة الحقول وابنة السهل، المقاوِمة المؤمنة بقضية الوطن، راقصت بدلالِ روحِها عذوبةَ روحه، هاربة من قدر مسيطر في المجتمعات العسكرية المقاوِمة. هذا القدر الذي جعلها أرملةَ شهيد وأمًّا لابنه، غضَّ نظره عن روحها التي نادت بصوتها العالي السليط، الصدى المتردّد على امتداد عذوبة الوقت القادم. فكان اِرتباطها – على سنّة الله ورسوله – بحبيبها السجين بعد انعتاقه، كي لا تصبح رقّة وعذوبة شهوتهما خطيئة لا تُغتفر، في مجتمع يعتبر اللمس خطيئة. خوسيه المسيحي الملتزم لم يعارض هذا الزواج، إذ كان حبه فوق كل الطقوس. فالحب الصادق يقدّس الحياة. من مقرِّ سكنهما في الضاحية الجنوبية من بيروت، عمل الزوج سرًا على شراء بيت في قرية حبيبته على ضفاف نهر العاصي، وقدَّمه لها هديَّة بمناسبة حملها، فكانت الفرحة مضاعفة.
ضمّن منصور عيد #كتابه واقع الوطن المعذّب دون (روتوش). فكانت كلماته تتباهى فتنة على ضفاف الحبّ: “من أين جاءتني تلك الغجرية؟! من أين أفرخت تلك النبتة الوحشية؟ من أي أعماق مشحونة بالغربة والضياع ولدت تلك الحورية؟”. وتبكي على رحيل الأمكنة: “… ونباتات برية تطاولت برؤوسها باحثة عن الحياة، فوق رموز الموت”، مصغية إلى لغة العقل الصادقة: “سمع كلام الله الواحد يجمع بين البشر، في وحدة الحب… وفي وحدة السماء والأرض…”، واصفة الصراع الدامي على أرض الوطن الذي يبتلع الضحايا ويُغرق الأحياء في بركة التماسيح: “والبيوت القليلة التي استمرت مضيئة في ليالي الاحتلال، أخذت تنطفىء أضواؤها في زمن عودة الجنوب إلى الوطن، وليس إلى دولة الوطن”. واصفة إفراغ الرموز الوطنية من محتواها: “والوطن في هذه البلاد جسد تلفظ فيه الروح أنفاسها”.
هل هو قدر الوطن أم الأشخاص؟ هذا القدر الذي لم يجعل حلم الأندلس يتحقَّق على أرض درّة الشرق بعناق الغرب. عند محاولة الهروب خلال حرب تموز، كان قدر الوطن شبيهًا بقدر عائلة خوسيه. فقد أصابت سيارته صواريخ الحقد التي يحملها العدو الإسرائيلي جوًا، وفقد حبيبته غجرية السهل الفسيح، وعاد الى البرازيل مع ابنته على متن سفينة الهروب.
إذا كانت رواية “الكورة البرازيل ذهابًا… وإيابًا”، للكاتب سليم ميغال غوصًا في وشم الهجرة، قد استحقت بجدارة جائزتي ظافاري بوربون ورابطة نقاد سان باولو، لإسهابها في وصف مآسي الارتحال والحنين الحاضر دومًا. فرواية “خربة مسعود” حُفرت على جدران القلوب الحائرة، ليقرأها فيضان الأحاسيس الغائصة في مآسي الوطن أنشودةً متمادية في الحنين إلى وطنين هربًا من غربتين.
لم تُفَكّ طلاسم أحجية الرَصَدْ إلى الآن. فكما أن القدر منع البطل من استمرار وضع زوجته مريم بين ذراعيه، مذوّبًا أنفاسها في كيانه، هكذا فعل بأطياف الوطن، مانعًا التلاقي على المستديرات التي تجمع. هذا الشعب، الذي حمل مرغمًا خطايا شهوات الساسة التي لا تُغتفَر، كيف سيكون عيشه المشترك نموذجًا وما زال نصفه يُعتبر عميلًا بالرغم من زوال جميع الاحتلالات (وإن كان طيفها باقٍ)؟! هذا الشعب سيولد له في كل عائلة مسعود، وتصبح دياره خربة بعد هجرته، كي لا تجتمع فيها كائنات دون الوعي الإنساني، لتحاور وقناعتُها بعدم احترام رأي الآخر تشبه العبادة.