إنسان عبيدة فياض يتبنى في قرارة نفسه ما عبّر عنه بوكسر في رواية “مزرعة الحيوانات” حين قال “لا أملك الرغبة في الحياة، ولا حتى في الحياة البشرية”

النشرة الدولية –

العرب – ميموزا العراوي –

يشكّل الفنان التشكيلي السوري عبيدة فياض من خلال لوحاته حالة مُلتبسة وشديدة المعاصرة، حيث يصعب تمييز القاتل من المقتول ويصعب الفصل بين الواقع والخيال الكابوسي. يكفي استعراض جملة من اللوحات للتيقّن من مسار تاريخي تبلور نصا وشكلا على وقع حوادث الوطن والتحوّلات العالمية.

غالبا ما يقترن اسم فنان باسم والده أو والدته، لاسيما وإن كان فنانا مميّزا. وينغمس عادة العديد من النقاد في متاهة إقامة التناظر بين الاثنين. وفي حين يعتبر الفنان المعنيّ أن في ذلك تبخيسا من قيمة عمله الفني، يجد المتمعّنون في ذلك أمرا لا مهرب منه.

الفنان السوري عبيدة فياض لا يخرج عن هذه المعادلة، وذلك ببساطة لأنه ابن الفنان التشكيلي عبدالحميد فياض المتميز بنص فني بالغ الحضور، ويمكن محاولة وصفه بكلمتين: مكمن حراريّ.

غير أن بعد نظرة أوليّة على مجمل أعمال الفنان عبيدة فياض، وخاصة تلك التي نشرها على صفحته الفيسبوكية، يمكن وضع اليد على الفارق الكبير بين النصين وعلى مستويين: الأول أنه في حين يعمد الفنان عبدالحميد فياض إلى ما يشبه اقتطاع مشاهد من الواقع من دون تراتبية زمنية، أو إشارة تشكيلية مباشرة إلى زمن ومكان “الواقعة” الأصلية التي انطلق منها وحقّق بها لوحته، يعمد الفنان عبيدة فياض إلى أن يستل من كل لوحة ينجزها خيطا يكمّل عبره حبك ما يسرده في لوحة تالية ليست تتمة بقدر ما هي صدى لسابقاتها.

صدى مُحيّر في أحيان كثيرة، إذ لا يرتدّ إلى مصدر الصوت الأول ليؤكّد عليه إنّما لأجل نفيه. ويتمثل ذلك خاصة في اللوحات التي تعنى برسم الوجوه “البشرية” الدائمة، فهي تارة تنضح بضربات الشقاء التي تعرض لها صاحبها، وتارة هي وجوه تشي بطاقة إجرامية مُرعبة يصعب تحديد مفاعيلها، ولكن يسهل الوصول إلى مُحركاتها الناطقة في لوحات سابقة لها. ونخص بالذكر هنا اللوحات التي تبدو فيها الأفواه وكأنها تعرّضت للتحطيم، أو هي أنجزت للتوّ من أجل التهام ضحية ما (لا شيء يمنع من أن تكون الذات) لا تزال دماؤها ندية.

وربما يخلص مُشاهد لوحاته هذه، إلى أن ما أراد الفنان التعبير عنه شعوريا أو لاشعوريا هو التأكيد على “وحدة الحال” التي تجمع بين الاثنين: مُتلقي الشقاء ومُسبّبه. وحدة حال تتمثل بوحشية منفرة ومُشتركة، يتناوب على تظهيرها الظالم والمظلوم مداورة.

الأقنعة الصحية في لوحات الفنان السوري استحالت إلى تدرّج طبيعي ومنطقي لمسار طويل من الفواجع الإنسانية الأقنعة الصحية في لوحات الفنان السوري استحالت إلى تدرّج طبيعي ومنطقي لمسار طويل من الفواجع الإنسانية

وتحيلنا هذه الأفكار إلى ما كتبه يوما الروائي جورج أورويل في رائعته “مزرعة الحيوانات” حيث قال “الحرب هي الحرب، ولن تجد في البشر إنسانا صالحا إلّا الموتى منهم!”، ومفهوم الحرب في لوحات الفنان عبيدة فياض هو مفهوم شامل كامل: إنها الحرب ضد الذات وضد الآخر وضد الوجود.

أما “الحرب” في لوحات عبدالحميد فياض فربما هي أكثر حزما وحسما لوقوفها إلى جانب الضحية في وجه القاتل.

وقد رسم الفنان عبيدة فياض “مزرعة” ليست أقلّ شراسة وصدقا من مزرعة جورج أورويل. لوحات أبطالها الذئب، والديك، والخنزير، والطيور الجارحة، والكلب… هؤلاء، يستحيل لمُشاهدهم في لوحاته أن يراهم بوصفهم حيوانات عادية، ويستحيل أيضا أن تتبنى أمامهم أي موقف، أكان تعاطفا أم نفورا وإدانة.

أما الفارق الثاني بين نص الفنان عبدالحميد فياض والفنان عبيدة فياض فيتمثل بمفهوم الحركة. فكما ذكرنا آنفا، في لوحة الفنان الأب، هناك حرارة كامنة، خاصة في تلك “المُغمّسة” باللون الأخضر أو الأزرق.

وهذه الحرارة الكامنة في عمق اللوحات هي “الهدير” الأصمّ الذي لا يتلقّفه إلّا المُصغي إليه، كالمنصت خلف المرشحات اللونية على أسرار ليس بقادر على فهمها أو على تحمّلها.

أما لوحة الفنان عبيدة فياض فتضجّ بحركة داخلية ومُعلَنة في آن واحد. ضجيج نعثر عليه خاصة في الوجوه الإنسانية المتحوّلة، التي لا ترسو في لوحة واحدة على شكل مُحدد. تبدو الوجوه التي يرسمها كطين غليظ وملوّن معجون بأنواع السموم التي تلقتها الوجوه ذاتها، والتي رشحت عنها تاليا.

ومن الأحزان الشخصية التي لم يتح لها أن تتشكّل جليا لتجد طريقها إلى لوحاته، ابتداء من أثر الحرب السورية وسموم الغاز المُلقى على أهل البلد، فالعينين المُقعّرتين أو الأخريين الغائرتين اللتين حوّلتا صاحبها إلى مهرج بتعابير فجّة ومخيفة، وصولا إلى زمن وباء كوفيد – 19 الذي أثار الرعب وكرّس الوحدة التي أسّست لها السنوات السابقة، حيث باتت الأقنعة الصحية في لوحات الفنان تدرّجا طبيعيا ومنطقيا لمسار إنساني طويل.

أقنعة وقائية ليست دخيلة البتة على عالم إنسان الفنان عبيدة فياض المطلوب منه أن يحمي ذاته من الآخر ويحمي الآخر منه، بل هي جزء من وجهه ومن دونها يحدث التشويه، وصولا إلى.. أنسنة الإنسان.

في قرارة نفسه يتبنى إنسان الفنان عبيدة فياض ما عبّر عنه بوكسر في رواية “مزرعة الحيوانات”، وكانت عيناه ممتلئتين بالدموع، حين قال “لا أملك الرغبة في الحياة، ولا حتى في الحياة البشرية”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button