الروائية المصرية “منصورة عز الدين” تكشف أغوار النفس وتطرح أسئلة جدلية برواية “بساتين البصرة”

النشرة الدولية –

في المنطقة الشائكة، التي نشبت فيها وما زالت تنشب، معارك الفلاسفة وعلماء الكلام، اتخذت الكاتبة المصرية منصورة عز الدين قرارها بالشروع في الولوج إلى “بساتين البصرة” (دار الشروق– القاهرة 2020) وقد انطلقت خلالها من فكرة تناسخ الأرواح، ذلك الاعتقاد الذي توزع اثره- على مدار تاريخ البشرية ودياناتها- بين الحقيقة والفانتازيا، لتعيد إذكاء المعركة الفلسفية ذاتها وتطلق شرارتها من جديد.

تبدأ الرحلة بالإشارة إلى ما رآه رجل في منامه وقصه على الإمام الحسن البصري، من أن الملائكة نزلت من السماء تلتقط الياسمين من البصرة، وفسر الإمام الرؤية بذهاب علماء البصرة. ثم انتقلت الكاتبة إلى بداية ثانية عبر حلم آخر لأحد الشخوص المحورية بالنص هشام خطاب- في مطلع الألفية الثالثة- الذي رأى في منامه أنه يأكل قمراً.

بهاتين البدايتين أرادت الكاتبة الإعلان عن فضاءين مختلفين، اختارت أن يسلكهما السرد في خط متواز، أحدهما في أواخر عصر الدولة الأموية، حيث مجالس علماء البصرة ومناظراتهم واختلاف رؤاهم إلى حد دفع واصل بن عطاء لاعتزال معلمه الحسن البصري، كاشفاً عن رأي يضع مرتكب الكبائر في منزلة بين منزلتين (الكفر والإيمان)، ثم تبعه فريق من مؤيديه وأطلق عليه وأتباعه “المعتزلة”. أما الفضاء الثاني، فيمتد منذ بداية القرن الحادي والعشرين حتى اللحظة القريبة الراهنة، جامعاً بين القاهرة، وشمال مصر وجنوبها.

تبدأ الكاتبة رحلة السرد عبر فضاءاتها المختلفة والمتوازية بتوظيفها الحلم، لتستنطق اللاوعي وترفع صخرة النسيان عن صدر الذاكرة وتمنح خرائبها حق إفشاء الأسرار، وتعطي شخوصها المحورية صوت السرد فيعلن هشام خطاب عن شعوره بانتماء روحه إلى جسد آخر ومدينة أخرى. ويشي باغترابه عن المنيا في جنوب مصر حيث يقيم، وعن امرأة يقال عنها أمه، متتبعاً رائحة الياسمين التي تفوح من الماضي فتقوده إلى حكايته الأولى حين كانت روحه لا تزال تسكن جسد يزيد بن أبيه، تتجول في شوارع البصرة.

يمضي السرد جيئة وذهاباً بين الحاضر والماضي، ويستمر ذاتياً على لسان الشخوص، مقسماً بين هشام خطاب، واصل بن عطاء، مالك بن عدي النساخ، يزيد بن أبيه الخواص، مجيبة زوجة يزيد، وبيلا، ثم تحيل الكاتبة مهمة الحكي إلى الراوي العليم فتنقل عبر صوته صوراً من عالم ليلى؛ أم هشام خطاب. وربما كان الدافع لاستحواذ الراوي على صوت السرد-كمرة وحيدة- عند الدخول إلى عوالم ليلى؛ عائداً إلى حادثة موت هذه الشخصية والتي لا يوافقها منطق السرد الذاتي من الداخل، ولم يكن يتسنى للوصف أن ينطلي بكل هذه الدقة وكل هذا الصدق إلا عبر صوت الراوي.

ظلت الكاتبة تراوغ ببعض الحيل الاستباقية، فتمنح طرف خيط من الحدث ثم تترك القارئ يلهث خلف البقية؛ أملاً في إشباع غريزة الكشف. فتارة يستبق يزيد بالإشارة إلى البيت الذي غير حياته من دون أن يخبر عن قصة هذا البيت. وتارة يستبق مالك بن عدي النساخ بذكر ضياع حلمه فيزج باسم مجيبة زوجة يزيد ويبرئها من أن تكون هي السبب في ما آل إليه، وبذلك يحفز التساؤلات حول علاقة مالك بمجيبة. وتارة أخرى تستبق بيلا بالإشارة إلى تغير هشام بعد الحريق، فتثير تساؤلات أخرى حول الحريق والجاني والدافع والضحايا. وهكذا تضمن الكاتبة عبر هذه التقنية؛ أسر قارئها حتى اللحظة الأخيرة حيث لا عدول عن الإبحار في عوالم النص، ولا فكاك من قيده.

تضرب “بساتين البصرة” مثالاً فذاً لرواية نفسية فلسفية بامتياز، حيث بدت الكاتبة مهمومة بتشريح النفس وخطاياها، تعلن انحيازاً ضمنياً للجانب الذي يعتقد في عودة الروح إلى جسد غير جسدها الأول، ربما بغية الحصول على فرصة ثانية لتأكيد الاختبار والاختيار، فيزيد بن أبيه الذي قتل شيخاً مريضاً، لم يفعل فعلته من أجل مال أو سلطان وإنما– كما ارتأت نفسه- لمساعدة الشيخ على تجاوز أنينه واستعجالاً لموته المحقق جراء إصابته بالطاعون. ثم إنه ما إن أنهى جريمته حتى تجرع خيانة الزوجة وغدر الصديق الذي ساقه إلى الموت ودفنه من دون جنازة أو غسل.

هكذا بدا يزيد مستحقاً لميلاد جديد، لكنه في حياته الثانية لم يحد عن خياره الأول، ومرة أخرى تلوثت يداه بالخطيئة ذاتها، فقتل أمه وقتل معلمه. ولأجل تحقيق غايتها في سبر أغوار النفس لجأت الكاتبة إلى الحلم الذي اتخذ منحى إشارياً يعتمد على الرمز والشفرة، سواء في ما اقتبسته من روايات وردت في كتاب “تفسير الأحلام” لابن سيرين، أو في ما ساقته مخيلتها عبر الشخوص لمنح الذاكرة متنفساً، والوصل بين عالم المخبوء في النفس وعالم الواقع، وكذلك للربط بين عالم مضى وطوى التاريخ صفحته فما بقي منه إلا أثراً، وعالم آخر من الواقع المعيش. وهكذا بات الحلم وسيلة ناجعة أتاحت نسج الأحداث على اختلاف فضاءاتها في لوحة واحدة منسجمة التفاصيل. واعتمدت عز الدين تقنيات تيار الوعي والمونولوغ الداخلي وكشفت عبر تلك الأدوات عن تناقضات النفس البشرية التي جبلت على الخطيئة والندم ثم معاودة الخطيئة والندم. وكشفت أيضاً عن كثير من أمراضها وأعطابها الأخرى مثل التعاطف مع الجاني (متلازمة استوكهولم)، فـهشام خطاب يتعاطف مع معلمه الذي يسرق أفكاره وينسبها لنفسه، بل يتجاوز الأمر حدود التعاطف إلى الشعور بالخجل؛ ما يدفعه للاختفاء بعض الوقت كي لا يشعر معلمه السارق بالحرج!

ظل الحنين إلى الماضي سمةً غلبت على كل الشخوص في النص كأنما هي جزء أصيل في تكوين النفس. فبينما يحن هشام إلى البصرة وبساتينها حيث موطن روحه في جسدها الأول، يحن مالك بن عدي إلى براءته قبل أن يتجاوز خطاً رفيعاً يفصلها عن الخطيئة. وتحن ليلى إلى أهلها الذين فارقتهم هرباً للزواج، وتحن بيلا أو مرفت لصباها وشبابها، فنداهة الماضي ظلت تمارس سحرها للاستحواذ على عقول الشخوص. ويعدو حضور النوستالجيا في النص الروائي كونها سمة رئيسة للشخوص، إذ تجسد حالة وتعبر عن صورة حقيقية من واقع معيش، فالكل مسكون بهذه النوستالجيا وذاك الحنين.

بين ثنايا السرد الذي وصل بين الماضي والحاضر، مرّرت الكاتبة العديد من القضايا الشائكة، ضمناً تارة وصراحة طوراً، فالأرواح حين تعود في أجساد جديدة لا تكرر إلا خطاياها، والتاريخ يعيد إنتاج مآسيه، أما الطبيعة، فلا تنفك تواجه العالم بكوارث وأوبئة، ولم يزل العوز ينخر في أجساد الفقراء، وما زالت الشهوة تدفع النفس إلى الخزي والندامة. ومثلما تنافر واختلف فكر علماء البصرة في القرن الثاني من الهجرة وباتوا يكفّرون بعضهم بعضاً، لا يزال المفكرون في الألفية الثالثة يرمون بعضهم بالكفر والخروج عن الملة عند اختلاف الآراء.

زادت الكاتبة في نكأ مواضع الجروح فعرجت على لصوص الأفكار ولصوص الأحلام ولصوص الحياة؛ ربما لتضع مقدمات صادقة ومنطقية تبرر بها وقوع الإنسان في براثن الخطيئة؛ تلك التي جبلت نفسه عليها.

بلغت اللغة ما كان عليها أن تبلغه من جمالية وبلاغة ودلالة تتسق مع فضاء الحكي وأحداثه التي يدور بعضها في البصرة في زمن الحصافة وتنافس العلماء. وعلى الرغم من بروز اللغة الفصحى كأسلوب رئيس للسرد، تسللت- في غير موضع- ومضات من العامية فأضفت مزيداً من الجاذبية والحميمية على النص. وقد دفعت الخصوصية التاريخية للفضاءين الزمني والمكاني- في البصرة- بالكاتبة للاستشهاد والتناص مع الموروث الديني والشعري والمأثور من الأقوال بما زاد من قوة السرد وجماليته. راحت تستدعي شعر امرئ القيس، وخطبة واصل بن عطاء، وتستخدم الأسلوب المنمق ذاته في مستهل كل صوت لتزيد من حالة التماهي مع تلك الشخوص والحقبة التي عاشت فيها وتستحضر سماتها التي وشى بها التراث الإنساني.

ثم توجت الحكاية بضبابية تتسق مع الروح الفلسفية للنص مثيرة الأسئلة الجدلية ذاتها حول تناسخ الأرواح ومسائل أخرى من قبيل الحرية والقدرية وإمكانية أن ينجو الإنسان من ارتكاب الخطأ نفسه. فهل تقود الفرص الثانية إلى النتيجة ذاتها؟ أم كما قال أمل دنقل في أحد استشهادات الكاتبة: “رفسة من فرس/ تركت في جبيني شجاً/ وعلمت القلب أن يحترس”!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى