عهد مثقل بالأثمان في خريف لبنان* رفيق خوري

النشرة الدولية –

المشهد حزين عشية السنة الخامسة قبل الأخيرة من ولاية الرئيس ميشال عون. رئيس يطرح أسئلة الناس الغاضبة بدل أن يقدم أجوبة وحلولاً، ويعلن، “نحن مفلسون ولا أستطيع فعل شيء”. ناس تتهيب الاحتفال بذكرى الانتخاب يوم 31 أكتوبر (تشرين الأول) 2016. وناس تطالبه بالرحيل مع المنظومة السياسية. وليس قليلاً ما يوحي أن خريف لبنان يرافق خريف عهد لم يشهد ربيعاً، مع أنه حمل أحلام الربيع وشعار “الإصلاح والتغيير”. فعلى ساعته انفجر ما تراكم من أزمات وطنية وسياسية ومالية واقتصادية واجتماعية على مدى سنوات طويلة. وهو لم يبدأ إلا بعد عامين ونصف العام من الشغور الرئاسي المفروض بقوة حزب الله تحت عنوان، عون رئيساً أو لا انتخابات ولا رئاسة ولا جمهورية. ولا كانت قليلة أثمان وصوله إلى القصر الجمهوري في بعبدا.

ثمن “تفاهم مار مخايل” المكتوب بين التيار الوطني الحر، وحزب الله بحضور العماد عون والسيد حسن نصر الله. ثمن الاتفاق الشفهي بين عون والرئيس سعد الحريري على انتخابه وإدارة السلطة بعد الانتخاب. وثمن “تفاهم معراب” بين التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية المكتوب والشفهي بحضور عون والدكتور سمير جعجع. وفي كل تفاهم شيء من القيود، وشيء من الفوائد والفرص. لكن بعض القيود بقي، وبعض الفرص ضاع.

ذلك أن “تفاهم مار مخايل” الذي وُصف بأنه “إستراتيجي” صار التزامه جزءاً من موقف الرئاسة، لا من موقف التيار الوطني الحر فحسب، بحيث اختفى الهامش الفاصل بين حزب الله والشرعية الرسمية، من الدفاع عن سلاح المقاومة الإسلامية إلى تكرار قول إن الجيش ليس قادراً على مواجهة اعتداء إسرائيلي على لبنان. لا بل إن الرئاسة تجاوزت التفاهم الذي ينص على حصر دور السلاح في مقاومة العدو الإسرائيلي، عبر تقديم الغطاء لمشاركة حزب الله في حرب سوريا وتدخله في العراق واليمن وتهجمه على الولايات المتحدة والسعودية. وهذا ما قاد إلى عزلة عربية ودولية للشرعية، حتى عند “مجموعة الدعم الدولية من أجل لبنان”. وليس ما تصورته السلطة “فك العزلة” بعد انفجار المرفأ الذي دمر بيروت سوى تعاطف إنساني مع الشعب اللبناني المنكوب بالانفجار والسلطة وسياساتها وفسادها. حتى عندما قال واحد من نواب حزب الله إن “بندقية المقاومة أوصلت عون إلى بعبدا” فإن رد الفعل كان الصمت.

الاتفاق مع الحريري على الرئاسة ورئاسة الحكومة، أنتج محاصصة مكشوفة في توزيع الوزارات والتعيينات في الإدارات وترتيب الصفقات، حيث الغرام بين الحريري والوزير جبران باسيل. وحين دبّ الخلاف واستقال الحريري من رئاسة الحكومة بعد ثورة 17 أكتوبر، فإن السجال كشف القليل مما كان يحدث في الحكومة. أما “تفاهم معراب” الذي أوجد عاملاً مؤثراً في لعبة التوازنات السياسية بين القوى والطوائف، فإنه لم يعش طويلاً. وفي الأوساط السياسية من يروي أنه سمع كلاماً واضحاً في الأيام الأولى للرئاسة مفاده، “انسَ تفاهم معراب”.

ومن السهل تحميل الآخرين المسؤوليات عن الأزمات التي تضرب اللبنانيين. فهذه من الوسائل العادية المألوفة في لبنان وسواه. لكن من الصعب الهرب من المسؤولية أقله عن وقف الانهيار الذي يكاد يكتمل قبل الحديث عن إنقاذ لبنان. والأصعب هو إخفاء ما يراه الناس بالعين المجردة من الجوع إلى المال والسلطة. حتى تعبير “العهد” فإنه لم يعد يحمل المضمون نفسه الذي كان لعهود الرؤساء قبل اتفاق الطائف. ففي الدستور قبل تعديله كانت السلطة تناط برئيس الجمهورية الذي “يعيّن الوزراء ويسمي من بينهم رئيساً”. وهو “ملك على جمهورية” كما سماه الرئيس الدكتور سليم الحص. والنجاح أو الفشل محسوب على العهد لا على الحكومات والبرلمانات. بعد الطائف وتعديل الدستور، صار النجاح أو الفشل محسوباً على الحكومات، لا على العهد الذي لا يستطيع صاحبه تنفيذ برنامج رئاسي، ولو تحدث عنه. فالسلطة ومركز القرار في مجلس الوزراء. ورئيس الجمهورية لم يعد صاحب القرار، بل صاحب الفيتو الذي يعترض على القرارات في مواضيع محددة.

في مكتب الرئيس عون سيف معلق على الجدار، وتحته عبارة “الشفافية هي السيف الذي يقضي على الفساد”. لكن هذا السيف بقي في غمده بفعل ظروف وحسابات معقدة وضغوط مصالح، بالتالي ازداد الفساد بمقدار ما تعمقت الأزمات. ولسنا في ظروف ماكيافيللي والحسابات التي جعلته يقدم النصائح في كتاب “الأمير” بعد كتاب “المطارحات”، ويقول، “على الأمير أن يكون أسداً وثعلباً معاً. الأسد لا يستطيع حماية نفسه من الفخاخ. والثعلب لا يستطيع حماية نفسه من الذئاب. الثعلب لتمييز الفخاخ. والأسد لتخويف الذئاب”. وأخطر ما تسمعه من معارضين وموالين هو أن العهد انتهى قبل أوانه من دون أن يبدأ.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى