هل يعلن الحريري حكومته قبل الانتخابات الأميركية؟* طوني فرنسيس
النشرة الدولية –
لا يتحمل لبنان المزيد من هدر الوقت، كان تشكيل حكومة تتولى شؤونه يستغرق أشهراً قبل الأزمة الراهنة الممتدة منذ أكثر من عام بسبب تمسك كل فريق طائفي، أو طائفي إقليمي بحصة لا يساوم عليها، أو بسبب شخصنة تتحكم بموقف المسؤول، تجعله يمنع ولادة منتظرة لأنها لا تستجيب لمصلحته الخاصة .
وقبل تشكيل الحكومات مرّ لبنان بتجارب أقسى على مستوى أخطر، وجرى التلاعب أكثر من مرة بموقع رئاسة الجمهورية، علماً أن الدستور ينص على تحديد مدة ولاية الرئيس بست سنوات لا يجوز تمديدها أو تجديدها. وتم ذلك التلاعب بإرادة الوصاية السورية على لبنان، التي استمرت منذ عام 1975 حتى اغتيال رئيس الوزراء رفيق الحريري في 2005.
قبل ذلك التاريخ ومنذ الاستقلال، لم ينجح أي رئيس مهما كان طامحاً إلى تجديد ولايته في تحقيق غايته، وقامت انتفاضة منعت الرئيس الاستقلالي الأول بشارة الخوري من الاستمرار في موقع الرئاسة عام 1952، ثم أدى الشك برغبة كميل شمعون في التجديد إلى اندلاع ثورة أسفرت عن المجيء باللواء فؤاد شهاب رئيساً، الذي رفض تجديد ولايته على الرغم من تمتّعه بدعم أكثرية النواب، فخلفه شارل حلو في الموعد المحدد، وبدوره سلّم حلو المنصب لسليمان فرنجية إثر انتخابات نيابية حامية ضمن المهلة الدستورية .
سار الياس سركيس، الذي انتخب في 1976 على خطى أسلافه، رافضاً فكرة التمديد أو التجديد، وكان الاحتلال الإسرائيلي عاملاً حاسماً في تحقيق رغباته، فانتخب بشير الجميل رئيساً عام 1982، وبعد اغتياله من دون أن يتسلم منصبه، خلفه شقيقه أمين الذي أخلى موقعه لحكومة عسكرية برئاسة قائد الجيش ميشال عون .لم يعش الموقع الدستوري الأول لحظة طبيعية منذ ذلك التاريخ، انتخب رينيه معوض كأول رئيس بعد اتفاق الطائف وجرى اغتياله بعد أسابيع .
بين الاحتلال الإسرائيلي والهيمنة السورية، اهتز نظام المؤسسات وأُطيح الدستور وأدت تبعية القوى الحاكمة إلى هذا الطرف الإقليمي أو ذاك إلى ولادة نمط جديد من الحكم، يقوم على الاستقواء الداخلي بين الأطراف المذهبية والطائفية ضد بعضها بعضاً، فتحوّل الدستور إلى وجهة نظر، والمحطات الدستورية الانتقالية في الجمهورية البرلمانية إلى موعد مؤجل بانتظار حسم يأتي غالباً من الخارج .
أعاقت القوى المحلية الموالية لإيران انتخاب رئيس للجمهورية عامين ونصف العام حتى تمكّنت من فرض مرشحها الوحيد الجنرال ميشال عون رئيساً، وكانت طهران قد ورثت النفوذ السوري في لبنان بعد انسحاب السوريين في أبريل (نيسان) 2006، التي ورثت عنهم أساليبهم بدقة، وبنكهة أضفاها حزب ديني منتشر في صفوف الطائفة الشيعية. وهو ما لم يتوفر للنظام السوري الذي أدار الشأن اللبناني مباشرة بواسطة ضباط استخباراته الذين “منعوا” الفراغ الرئاسي بالتمديد ثلاث سنوات لرئيسين اختاروهما للمنصب الأول، وفرضوا توقيتهم وخياراتهم في تشكيل الحكومات وتسمية عناصرها وتنظيم خلافاتهم، ثم حل مشكلاتهم.
في الزمن الإيراني، اختلف السياق. فإذا كان انتخاب رئيس للجمهورية احتاج إلى فراغ مديد، سبقه سعي حثيث إلى تعديل وتطويع موازين القوى الداخلية، فإن تشكيل الحكومات بات يستدعي أشهراً من المناكفات والتجاذبات التي ستجعل السلطة التنفيذية مطواعة في العناوين السياسية الكبرى وضئيلة الإنتاجية في المهمات اليومية، ما سيحوّلها إلى شاهد زور وشريك في عمليات النهب والفساد اليومية التي قادت لبنان إلى الانهيار الذي يعيشه .
والبلد اليوم على مفترق طرق؛ فإما الاستمرار في الأساليب ذاتها، رضوخاً للقوى الإقليمية المتحكمة وممثليها المحليين، وإما كسر الحلقة الموروثة بخوض مواجهة صريحة تتخذ من المصلحة الوطنية العليا هدفاً لها.
لقد اختير سعد الحريري رئيساً للحكومة بعد سنة من اندلاع الاحتجاجات الشعبية على السلطة بأطرافها كافة، وهو حاجة ضرورية لهذه الأطراف نظراً إلى وزنه التمثيلي في أوساط طائفته، بقدر ما يثير آمالاً في أوساط عدة بإمكانية الخروج من النفق .
أحد أسباب قبول القوى الحاكمة، وفي مقدمتها حزب الله، بالحريري، سعي هذه القوى لتغطية قرارها بفتح باب التفاوض مع إسرائيل على ترسيم الحدود مع لبنان في خطوة لا يُعتقد أنها تمت من دون ضوء أخضر إيراني، إلا أن هذه القوى لن تسهّل مشروع الحريري المعلن في تشكيل حكومة مصغرة من متخصصين، وهي تسعى إلى استنساخ حكومات سابقة أسفرت سياساتها عن نتائج مروّعة، بعد أن أمضت أشهر ممارستها السلطة في شجار يومي على المكاسب الفئوية .
والقارئ في تجارب الماضي القريب لا بد من أنه سيصل إلى استنتاج مفاده بأن صاحب القرار في الحلف الإيراني الممانع لن يسمح بحكومة مختلفة، ما يعني إطالة من دون طائل للمهمة التي تولاها الحريري، وصولاً إلى تنصيبه رئيساً للحكومة بشروط قال سلفاً إنه يرفضها .
ويخطئ من يظن أن صاحب القرار المذكور لا يقيس خطواته بدقة، وهذه المرة يفعلها على وقع حسابات الانتخابات الرئاسية الأميركية الأربعاء المقبل، لقد تغير سبعة رؤساء أميركيين في الانتخابات منذ قيام الثورة الخمينية، وما زالت هذه الانتخابات موضع رهان لدى القادة الإيرانيين في صراعهم المديد مع “الشيطان الأكبر”. ويستعمل هؤلاء مناطق نفوذهم في هذا الصراع، فعلوها سابقاً بالعراق. وفي لبنان كان لافتاً للنظر اختيار موعد انتخاب الرئيس عون قبل أربع سنوات عشية الانتخابات الأميركية التي لم يكن الإيرانيون واثقين من نتائجها .
ربما يكون الرهان ذاته مطروحاً اليوم، وترجمته إرجاء تشكيل الحكومة إلى ما بعد الانتخابات الأميركية، على عكس ما جرى في شأن الانتخابات الرئاسية اللبنانية السابقة. وفي هذه الحالة، من المنطقي القول إن على الحريري إنجاز حكومته والإعلان عنها قبل المحطة الرئاسية الأميركية، ليضع حدّاً للتلاعب من جهة، وليخوض تجربته الجديدة في حكومة لـ”استعادة الثقة”، تعويضاً عن حكومة سابقة رفعت الشعار وفشلت في تطبيقه .