“التطرف الإسلامي” لا يستطيع التعايش مع القيم الفرنسية* سوسن مهنا

النشرة الدولية –

تصاعدت ردود الفعل الدولية سريعاً بين مؤيد لفرنسا ومقاطع لمنتجاتها. وقد تداخلت حادثة قطع رأس أستاذ مادة التاريخ صامويل باتي مع عناوين سياسية أخرى بين باريس وتركيا. وتوتّرت الأجواء بين الرئيسين الفرنسي إيمانويل ماكرون والتركي رجب طيب أردوغان، ولم يخلُ الأمر من تصريحات شخصية عالية النبرة.

وكانت الشرطة الفرنسية قتلت لاجئاً شيشانياً يبلغ من العمر 18 سنة في 16 أكتوبر (تشرين الأول)، أقدم في مدينة كونفلان سانت أونورين على ذبح أستاذ عرض على تلامذته صوراً كاريكاتورية للنبي محمد خلال درس عن حرية التعبير كانت صحيفة “شارلي إيبدو” قد نشرتها سابقاً. ووصف ماكرون عملية القتل بأنها “هجوم إرهابي إسلامي”، وبأن “الأمة بأكملها” مستعدة للدفاع عن المدرّسين وأن “الظلامية لن تنتصر”.

فرنسا تضم الجالية الإسلامية الأكبر أوروبياً

يوجد في فرنسا أكبر عدد من المسلمين في أوروبا الغربية، ويقدّر عددهم الرسمي بنحو ستة ملايين مسلم، ولكن قد يصل الرقم الحقيقي إلى ما لا يقل عن 11 مليوناً، وتنتمي غالبية هؤلاء إلى دول المغرب العربي وشمال أفريقيا. وتزايدت أعداد المسلمين بعد الحرب العالمية الأولى لحاجة البلاد إلى اليد العاملة. وشهدت فرنسا نحو 18 هجوماً منذ عام 2015، أبرزها الهجوم على “شارلي إيبدو” في يناير (كانون الثاني) 2015، وهجمات باريس خلال نوفمبر (تشرين الثاني) من السنة ذاتها، وهجوم يوليو (تموز) 2016 في مدينة نيس، وهجوم ستراسبوغ في ديسمبر (كانون الأول) 2018. وكلها خلّفت قتلى وجرحى وارتكبها أشخاص ينتسبون إلى تنظيمات متطرفة أو في فلكها. وبحسب إحصاءات صحافية فرنسية، فقد ذهب ضحية العمليات الإرهابية نحو 253 شخصاً ما بين قتيل وجريح. وأعلنت باريس حملة توقيفات على خلفية جريمة مقتل المدرس. وفتحت تحقيقات في المنشورات التي تحرّض على الكراهية وتتعاطف مع منفذ الجريمة. بينما تستعد وزارة الداخلية لطرد 231 أجنبياً مدرجين على قائمة التطرف، بينهم 51 شخصاً خارج السجن. وقرّرت تعزيز الأمن في المنشآت الدراسية، فضلاً عن تشديد الخناق على جمعيات إسلامية لديها مصادر تمويل أجنبية.

علمانية فرنسا أو حملة الرئيس ماكرون

ما هي أسباب استهداف فرنسا تحديداً، وهل لعلمانيتها دور في تأجيج الصراع مع الجاليات المسلمة، أم أن هناك عوامل أخرى مستفزة تشكّل ظاهرة غير مسبوقة قد تهدد السلم الأهلي؟

يرى بعض المراقبين أن الأزمة تتمثل في أن معظم المسلمين لم ينجحوا في التعايش مع القوانين العلمانية للدولة الفرنسية. ويعتبر الآخر أن هناك حملة شرسة يشنّها ماكرون ضد ما يصفه بـ”الإسلام المتطرف”. وأغلقت الحملة حتى الآن 328 مسجداً ومدرسة. ويأتي تصريحه الذي قال فيه إن “الدين الإسلامي يعيش أزمة في أنحاء العالم اليوم” في هذا الصدد، ما دفع بمجمع البحوث الإسلامية في الأزهر إلى التحذير من مثل هذه “التصريحات العنصرية التي من شأنها أن تؤجّج مشاعر ملياري مسلم”. وانضم وزير الداخلية جيرالد موسى دارمانان، وهو حفيد مهاجرين من أصول يهودية مالطية، إلى الحملة إذ عبّر عن انزعاجه خلال مقابلة على شاشة BFM الفرنسية، من رؤية الأطعمة والألبسة في المحال التجارية التي تعزز من “الانفصالية”، ما أثار عاصفة من الانتقادات، ووصف تصريحه بـ”العنصري”.

خلافات بين الرئيسين فاقمت الصراع

هناك من يوجه أصابع الاتهام إلى الرئيس الفرنسي، ويقول إنه يتّبع خطاباً عدائياً للإسلام والمسلمين ويعتبر أن الرسوم المسيئة للنبي محمد تقع في إطار حرية التعبير عن الرأي، وتحدّى مشاعر الجالية المسلمة عندما رفض انتقاد خطوة “شارلي إيبدو”. لكن، هل خطوة ماكرون جاءت من العدم؟ وهل لا يوجد من يحرك التطرف في فرنسا مستغلاً الدين والمساجد؟

في 18 فبراير (شباط) 2020، أعلن ماكرون أنه سيفرض قيوداً على إيفاد دول أجنبية أئمة ومعلمين إلى البلاد، بهدف القضاء على ما وصفه بخطر “الشقاق”. وأشار إلى أن حكومته طلبت من الهيئة التي تمثل الإسلام في فرنسا إيجاد سبل لتدريب الأئمة على أراضيها والتأكد من أنهم يستطيعون التحدث بلغة البلاد ومن عدم نشرهم أفكاراً متشددة، كتلك التي تروّج في عدد من المساجد وأماكن العبادة من خلال بعض الأئمة الممولين من الخارج، لا سيما من تركيا. وكشف ماكرون عن تمويل ضخم وصل إلى أكثر من 35 مليون يورو للنشاط السياسي خصص لمسجد واحد يضم عشرات العملاء الذين يتجسّسون على معارضي أردوغان، وينشرون الفكر الإرهابي في أقصى جنوب غرب فرنسا بعدما حوّل الرئيس التركي المساجد إلى مقار سياسية تدعو إلى “العثمانية الجديدة” وتؤوي المتطرفين وتروّج لأفكار متشددة في المجتمعات الأوروبية، إضافة إلى إعداد وكتابة تقارير موجهة إلى حكومة أنقرة عن المعارضة التركية داخل القارة العجوز، الأمر الذي رفضته تركيا.

يذكر أن وسم Fransız mallarına boykot الذي يعني بالتركية مقاطعة المنتجات الفرنسية ظهر أولاً وبشكل كبير على صفحات التواصل الاجتماعي التركية، وأول من خرج بالتصريحات العلنية ضد الرئيس الفرنسي كان أردوغان نفسه، ووصل به الأمر إلى القول عن ماكرون إنه بحاجة إلى “فحوص لصحته العقلية”. وهي ليست المرة الأولى التي يتناول فيها أردوغان ماكرون شخصياً، إذ وصفه سابقاً بـ”عديم الكفاءة” وبـ”الطامع غير المؤهل”. كما سبق أن شبّه ما يتعرّض له المسلمون في أوروبا بما تعرّض له اليهود قبل الحرب العالمية الثانية من حملات إعدام من دون محاكمات. لكن الحادثة التي أجّجت شرارة غضب أردوغان، هي قرار وزير الداخلية الفرنسي، الجمعة 23 أكتوبر (تشرين الأول) الحالي، بإغلاق مسجد بانتان (شمال شرق باريس)، لأن غالبية المصلين في هذا المسجد أتراك، إذ يبلغ العدد التقريبي للمصلين 1500 وعدد المصلين الأتراك 1000، علماً بأن عدد الذين يعيشون في فرنسا يصل إلى نحو 800 ألف.

شروخ عميقة تطبع المجتمع الفرنسي

وكان الرئيس ماكرون دعا إلى حماية الأمة من القوى الانفصالية. وصرّح مراراً أنه “لن يكون هناك أي مكان في فرنسا للذين يحاولون فرض قانونهم الخاص باسم الله أو بمساعدة قوى أجنبية”.

أما وزير الداخلية دارمانان، فقد أشار إلى قانون “مكافحة الانفصالية”، قائلاً، إنه “لا تعارض بين أن تكون مسلماً ومواطناً فرنسياً”. وأضاف أن التشريع الجديد يهدف إلى مهاجمة “أعداء البلاد من الإرهابيين والجماعات السياسية التي تهدد النموذج الفرنسي لحرية التعبير وطريقة عيشنا والطريقة التي نعلّم بها أطفالنا”.

لكن لجواد بشاري، مدير جمعية “مكافحة الإسلاموفوبيا” في فرنسا، المعروفة بصلتها بجماعة الإخوان المسلمين، رأياً آخر، إذ يقول في حديث إعلامي “نحن نقترب من نهاية الولاية الأولى لماكرون، ومع كل انتخابات تعود الأسئلة ذاتها إلى الطرح داخل المجتمع، وهي عن المسلمين وتمويل دور العبادة”.

وهنا يطرح سؤال عن خطوات الحكومة الفرنسية، وهل هي كافية لمواجهة “التطرف الإسلامي”؟

كثيراً ما انتقدت أوساط دينية فرنسا على سياستها العلمانية، خصوصاً أنها من الدول القليلة التي تمنع ارتداء أي شيء يرمز إلى الدين، وتفرض قيوداً صارمة على حضور الدين في الحياة العامة. ويربط كثير من المراقبين ظاهرة التطرف بالعزلة والتهميش اللذين تعيشهما الجاليات المسلمة في فرنسا، حيث ترتفع معدلات البطالة ويكثر الانقطاع عن الدراسة ويشكّل السكان مجتمعات تعتزل الثقافة الفرنسية. ومن المتوقع أن يعزز مشروع قانون الانفصالية أو قانون حماية القيم الجمهورية ملاحقة تمويل المساجد والمدارس الدينية الأجنبية الخاصة ونقابة الأئمة الأجانب وزيادة المراقبة على الجمعيات والأفراد المشتبه في محاولتهم الانفصال عن الدولة.

ويكشف تقرير برلماني فرنسي نشر في يوليو (تموز) الماضي، عن أن ما سمّاه “التطرف الإسلامي” في البلاد “يمسّ كل مناحي الحياة الاجتماعية، ويميل إلى فرض نمط اجتماعي جديد، مستفيداً من الحرية الفردية”. ويعتبر التقرير الذي نشرته صحيفة “لو فيغارو” أن هناك فرض “إقامة جبرية على أشخاص باسم العقيدة الدينية”، في إشارة إلى ممارسات لمتشددين يرفضون خروج زوجاتهم من البيوت. ويلمح التقرير إلى أن السلطات قد تأخرت في محاصرة الخطر الراديكالي.

وأعدت مؤسسة إيفوب IFOP تقريراً يفيد بأن هناك نحو 74 في المئة من المسلمين تحت عمر 25 عاماً يقولون، إنهم يضعون عقيدتهم في المقدمة مقابل قوانين الجمهورية الفرنسية. ويصرّح رئيس الوزراء الاشتراكي السابق مانويل فالس، لصحيفة فرنسية، “دعونا لا نكون ساذجين”، مشيراً إلى أن “الموضوع الحقيقي هو المعركة ضد الإسلام السياسي للإخوان المسلمين والسلفيين”. ويصل عدد الأشخاص المدرجين في قوائم التطرف الإرهابي إلى نحو 8132 بحسب أرقام الداخلية الفرنسية.

قانون حماية الجمهورية

ما هو قانون حماية القيم الجمهورية؟ وكيف يعيش المسلم حقيقة في فرنسا؟ وهل هو مضطهد؟ وكيف يمارس شعائره؟ وهل لعلمانية فرنسا علاقة بما يحصل من حوادث إرهابية؟ وماذا يريد المسلم الذي يعيش في فرنسا؟ وماذا تقدم الحكومة الفرنسية للاجئ الجديد إلى أراضيها؟

عدّل قانون مواجهة الانفصالية إلى قانون تعزيز القيم الجمهورية، وفق المحامي المتخصص في حقوق الأجانب بفرنسا زيد العظم، الذي يلخّص النقاط البارزة في القانون بقوله، “النقطة الأولى، يمنع شهادات العذرية التي تمنح للفتاة من أجل إثبات أنها عذراء، لأن هناك كثيراً من الجاليات تعتبر هذا الأمر من الأعراف وتطلب شهادة العذرية للدلالة على أن هذه السيدة عذراء وغير متزوجة. والثانية تتعلّق بتحديد القانون سن الثالثة للدخول إلى المدارس، ما يعني أن التعليم في البيوت أصبح ممنوعاً. وهذا الأمر موجّه إلى الجمعيات الدينية التي تنظم ندوات تدريسية في المنازل. والحدّ من نشاطات المساجد الاجتماعية، وفق هذا القانون، سيكون المسجد مكاناً للعبادة فقط، ويمنع على المساجد تنظيم حملات اجتماعية أو ندوات. أما الثالثة فتتمثل في تأكيد حيادية الدولة تجاه كل الأديان والطوائف. وهو استخلاص لروحية قانون 1905 الذي نصّ على أن الدولة ومؤسساتها محايدة أمام جميع الأديان، ويطلب من المؤسسات والشركات أن تلتزم الحياد الديني، بمعنى أن جميع الرموز والإشارات والأزياء الدالّة على الدين ستلغى، كالصليب والحجاب والقلنسوة اليهودية”. ويؤكد العظم، “أن المسلمين في فرنسا يمارسون شعائرهم بكل حرية وراحة، والدولة لا تمارس أي ضغوط على أي متديّن وعلى أي مصلٍّ، ويوم الجمعة يستطيع المسلم الذهاب إلى صلاة الجمعة بكامل الحرية”.

ماذا يريد المسلم الذي يعيش في فرنسا؟

يميّز المحامي العظم بين نوعين من المسلمين، المتديّن وغير المتديّن، الأول يريد أن تكون القوانين الفرنسية أكثر تسامحاً مع المتدينين وبصورة خاصة مع المحجبات، لأن الحجاب ممنوع في المدارس ودوائر الدولة الرسمية، وحتى القطاع الخاص يرفض ولو بشكل غير ظاهر توظيف المحجبات. بالتالي، فإن المحجبة المسلمة ترى أن هذا التصرف ليس من العلمانية بل هو محاربة، ومصطلح العلمانية فضفاض، فهناك دول أوروبية، كالإسكندينافية، تسمح للمرأة المحجبة بالعمل والدخول إلى دوائر الدولة، لأن هذا يعتبر حرية شخصية. وبالنسبة إلى قانون اللجوء، يقول العظم إن الدولة الفرنسية تقدم إلى اللاجئ مجموعة من الحقوق لمجرّد أن يقبل طلبه، إذ يستطيع أن يقوم بلمّ الشمل، وتزوّده بمبالغ ريثما يعثر على عمل.

*نقلاً عن “إندبندنت عربية”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button