الصحراء مغربيّة أكثر من أيّ وقت* خير الله خير الله
النشرة الدولية –
ليس خطاب الملك محمّد السادس في الذكرى الخامسة والأربعين لـ”المسيرة الخضراء” سوى خطاب الهدوء والطمأنينة اللذين يؤكّدان أن الحق يعلو ولا يُعلى عليه. هذا ما آمن به المغرب منذ البداية وهذا ما تحقّق بعد سنوات طويلة من النضال اختلط فيها العمل العسكري بالعمل السياسي والدبلوماسي، علما أنّ المغرب لم يلجأ يوما إلى السلاح، بل كان دائما في وضع المُعتدى عليه في حرب استنزاف شنتها الجزائر عبر أداة اسمها جبهة “بوليساريو”. لم يكن المغرب يوما سوى في وضع الدفاع عن النفس في قضيّة حظيت دائما بإجماع داخلي، خصوصا أنّها مرتبطة بوحدة التراب الوطني والدفاع عنه.
لم تكن “المسيرة الخضراء” التي شارك فيها مئات الآلاف من المواطنين المغاربة سوى تكريس لوجود قضيّة وطنية يؤمن بها المغاربة جميعا. كان ما قام به الملك الحسن الثاني، رحمه الله، الذي وقف وراء “المسيرة الخضراء” تعبيرا عن مسيرة العقل والتعقّل من أجل استعادة المغرب حقوقه في أرضه بطريقة سلمية قبل أيّ شيء آخر.
لم يعتد المغرب يوما على أحد. كل ما سعى إليه يتمثّل في استعادة حقوقه بالطرق الأكثر سلمية بعيدا عن أيّ نوع من العنف من جهة وفي ظلّ إجماع وطني من جهة أخرى. لعلّ أكثر ما كان لافتا بالنسبة إلى زائر المغرب في سبعينات القرن الماضي وثمانيناته أن الشارع المغربي كان مندفعا إلى أبعد حدود في اتجاه حسم قضيّة الصحراء المغربية بكلّ الوسائل الممكنة في وقت كان الملك نفسه يهدّئ الشارع ويدعوه إلى السلمية.
كانت هناك حماسة شعبية، ليس بعدها حماسة، من أجل استعادة الأرض في وقت كانت هناك قوى إقليمية ودولية، في ظلّ الحرب الباردة، تتكالب من أجل حرمان المغرب من حقوقه الطبيعية. من هذا المنطلق، يستطيع الملك محمّد السادس القول في خطابه “شكلت المسيرة الخضراء، التي نخلد اليوم، ذكراها الخامسة والأربعين، نموذجا فريدا في التعبئة الجماعية، والالتزام والانضباط، والتشبث بالحق. فقد استجاب المغاربة، بكل تلقائية، وبروح الوطنية الصادقة، لنداء مبدعها، والدنا المنعم، جلالة الملك الحسن الثاني، طيب الله ثراه، فأثبتوا للعالم قدرة الشعب المغربي على رفع التحديات، ودخول التاريخ، بمسيرة سلمية، تكللت باسترجاع أقاليمنا الجنوبية”.
لا يمكن اعتبار “المسيرة الخضراء” مجرد حدث وطني بارز، في مسار استكمال الوحدة الترابية للمغرب فحسب، بل إنها أيضا، حسب قول الملك محمّد السادس “مسيرة متجددة ومتواصلة، بالعمل على ترسيخ مغربية الصحراء، على الصعيد الدولي، وجعلها قاطرة للتنمية، على المستوى الإقليمي والقاري”.
كان مهمّا أن يعرض العاهل المغربي المراحل المختلفة التي مرت فيها قضيّة الصحراء وصولا إلى “المشاركة الفعلية للأطراف المعنية الحقيقية، في هذا النزاع الإقليمي، بما رسّخ بشكل لا رجعة فيه، الحل السياسي، الذي يقوم على الواقعية والتوافق، وهو ما ينسجم مع المبادرة المغربية للحكم الذاتي، التي تحظى بدعم مجلس الأمن والقوى الكبرى، باعتبارها الخيار الطبيعي الوحيد لتسوية هذا النزاع”. لم يتجاهل محمّد السادس في الوقت ذاته أهمّية أفريقيا وعودة المغرب إلى الاتحاد الإفريقي إذ قال “أما على مستوى الاتحاد الإفريقي، فقد تخلصت هذه المنظمة (الاتحاد الإفريقي)، بفضل رجوع المغرب إلى بيته الإفريقي، من المناورات التي كانت ضحيتها لعدة سنوات. وأصبحت تعتمد على مقاربة بناءة، تقوم على تقديم الدعم الكامل، للجهود التي تبذلها الأمم المتحدة، بشكل حصري، من خلال أمينها العام ومجلس الأمن”.
تطرّق بالطبع إلى الانتصارات الدبلوماسية التي حققها المغرب، “إذ، حصل على المستوى القانوني والدبلوماسي أن فتحت عدة دول شقيقة، قنصليات عامة في مدينتي العيون والداخلة، في اعتراف واضح وصريح بمغربية الصحراء”. كانت دولة الإمارات العربية المتحدة سباقة في هذا المجال. افتتحت قبل أيّام قليلة قنصلية في العيون، وأشار الشيخ عبدالله بن زايد وزير الخارجية الإماراتي في المناسبة إلى مشاركة بلاده في “المسيرة الخضراء”. استعاد العلاقة المميّزة التي ربطت بين الحسن الثاني والشيخ زايد بن سلطان آل نهيان مؤسس دولة الإمارات.
كانت مهمّة إشارة محمّد السادس إلى أنّ “الأغلبية الساحقة من المجتمع الدولي، ترفض الانسياق وراء نزعات الأطراف الأخرى. فقد بلغ عدد الدول، التي لا تعترف بالكيان الوهمي 163 دولة، أي 85 في المئة من الدول الأعضاء في منظمة الأمم المتحدة”.
“سيظل المغرب ثابتا في مواقفه”. هذا ما أكده ملك المغرب مشيرا إلى أنّه “لن تؤثر على المغرب الاستفزازات العقيمة، والمناورات اليائسة، التي تقوم بها الأطراف الأخرى، والتي تعد مجرد هروب إلى الأمام، بعد سقوط أطروحاتها التي تجاوزها الزمن. وهنا نؤكد رفضنا القاطع، للممارسات المرفوضة، لمحاولة عرقلة حركة السير الطبيعي، بين المغرب وموريتانيا، أو لتغيير الوضع القانوني والتاريخي شرق الجدار الأمني، أو أي استغلال غير مشروع لثروات المنطقة”.
كان الخطاب مناسبة أيضا للحديث عن المستقبل وكيفية الاستثمار في تنمية الصحراء كي تكون جزءا لا يتجزّأ من المشروع التنموي المغربي. قال محمّد السادس في هذا المجال “ستكون الواجهة الأطلسية، في جنوب المملكة، قبالة الصحراء المغربية، واجهة بحرية للتكامل الاقتصادي، والإشعاع القاري والدولي. فإضافة إلى ميناء طنجة – المتوسط، الذي يحتل مركز الصدارة بين موانئ إفريقيا، سيساهم ميناء الداخلة الأطلسي، في تعزيز هذا التوجه. وسنواصل العمل على تطوير اقتصاد بحري حقيقي، في هذه الأقاليم العزيزة علينا في ضوء ما تتوفر عليه، في برها وبحرها، من موارد وإمكانات كفيلة بجعلها جسرا وصلة وصل بين المغرب وعمقه الإفريقي”.
يسمح ما تحقّق على الأرض بالكلام بروح إيجابية عن وضع الصحراء المغربية. هذا عائد بكل بساطة إلى أنّ أمورا كثيرة تغيّرت بين العامين 1975، حين حرّرت “المسيرة الخضراء” الصحراء من الاستعمار الإسباني، و2020 حين بدأ العالم يعترف بأنّ كلّ المناورات التي لجأ إليها أعداء المغرب ارتدّت على أصحابها.
في النهاية، لا يصحّ إلّا الصحيح ولا شيء ينجح مثل النجاح. استطاع المغرب مواجهة القوة العسكرية التي حاولت انتزاع أرضه منه واستطاع لاحقا تأكيد أن هناك حلّا واحدا لا يمكن تجاوزه هو طرح الحكم الذاتي الموسّع للصحراء أسوة بكل الأقاليم المغربيّة. من يعترض على ذلك، كمن يحرث البحر. هذا ما بدأ يقتنع به كثيرون في المنطقة والعالم من الباحثين عن الاستقرار في المنطقة وعن مصلحة سكّان الأقاليم الصحراوية في المغرب!
بعد 45 عاما على “المسيرة الخضراء” يتأكد أن الصحراء المحرّرة مغربية أكثر من أي وقت.