من اليقين الانتخابي إلى اللايقين السياسي* رفيق خوري
النشرة الدولية –
في القرن التاسع عشر، وصف ألكسيس دو توكفيل الانتخابات الأميركية بأنها “نوع من المرض يجعل الجسم السياسي محموماً وخطيراً قبل العودة إلى الوضع الطبيعي”. وفي انتخابات عام 2020، تبدو العودة إلى الوضع الطبيعي طويلة وصعبة. وهناك من يتصور أن الانقسام السياسي الحاد صار الوضع “الطبيعي”. فما يواجه حقيقة كون الصناديق حسمت السباق الرئاسي لمصلحة المرشح الديمقراطي جو بايدن هو فانتازيا “الحقائق البديلة” التي هي ماركة مسجلة لأكاذيب الرئيس دونالد ترمب. وما يكمل سلاح الكذب الذي يقاتل به ترمب هو سلاح الإنكار والاتهام السابق واللاحق للانتخابات بالتزوير و”سرقة” الفوز منه. والمشكلة ليست في رفض الاعتراف بأن بايدن هو الرئيس المنتخب الـ46، بل أيضاً مخاطر مرحلة ما بعد الخروج القسري من البيت الأبيض. وإذا كان بول كروغمان، الحائز جائزة نوبل في الاقتصاد يطرح سؤالاً من نوع: “هل أميركا دولة فاشلة؟”، فإن الروسي أوليغ موروزوف ينظر إلى أميركا كأنها قرغيزستان ويقول: “نحن نشهد قرغزة النظام الانتخابي الأميركي”. لا بل إن نيكولاس كريستوف يكتب في “نيويورك تايمز” عن “رئيس خرّب بلده”، ويقول: “التدخل الكبير في الانتخابات لم يأتِ من روسيا أو الصين أو إيران أو كوريا الشمالية، بل من رئيس الولايات المتحدة. وما فعله ترمب هو ما حاول الروس فعله دائماً: زرع الشك في الانتخابات الأميركية وزعزعة الاستقرار”.
ذلك أن مهمة الرئيس المنتخب بايدن الملحة هي السعي إلى توحيد الشعب الأميركي و”عودة الروح” إلى أميركا. وما أمامه هو “شعبان” و”أميركتان”: أميركا “بيضاء” خائفة من أن تصبح أقلية 40 في المئة عام 2040، وفق مكتب الإحصاء الوطني. وأميركا “ملوّنة” تصبح أكثرية وتحول دون حكم الأقلية السائد. وما وراءه هو انتخابات صوّت فيها نحو 150 مليون ناخب على قاعدة: التصويت ضد من تكره أكثر مما هو لِمن تحب. وما فوجئ به خصوم ترمب من النخبة الأميركية أصابهم بالذهول، وإن خسر الرجل: أكثر من 70 مليون أميركي صوتوا للرئيس الذي اعترف في كتاب بوب وودورد “غضب” بأنه عرف خطورة كورونا لكنه حاول التقليل من ذلك بحجة عدم تخويف الناس، بحيث سجلت الولايات المتحدة الرقم القياسي في أعداد المصابين والضحايا والرقم المتأخر في إعداد البلد لمواجهة الجائحة. لا بل إنه ربح 9 من 10 ولايات كانت الإصابات فيها كبيرة. الرئيس الذي أهان حلفاء أميركا وغازل خصومها السلطويين ودفع العالم إلى فقدان الثقة بها، رافعاً شعار “لنجعل أميركا عظيمة ثانية”. وهذه إشارة إلى مشكلة حقيقية في قلب المجتمع الأميركي. مشكلة يمين متطرف عنصري يريد، لا فقط عزلة بلاده عن الخارج، بل أيضاً الانعزال في الداخل ووقف الهجرة التي هي أساس أميركا. يمين يعطي الأولوية لسياسة الهويات قبل الاقتصاد والأمن القومي. ومن هنا قول جيفري غولدبيرغ، رئيس تحرير مجلة “أتلانتيك” إن “أكبر تحدٍّ أمامنا هو الفشل البنيوي في نظامنا الديمقراطي الذي سمح لغشاش كاذب أن يصل إلى البيت الأبيض” عام 2016.
أكثر من ذلك، فإن أميركا التي تراهن دول كثيرة على دورها وقيادتها تبدو في مرحلة اللايقين. لا يقين بالنسبة إلى مدى الانحدار الأميركي ومدى القدرة على الصعود. لا يقين بالنسبة إلى مستقبل النظام في الداخل، حيث الانقسام السياسي هو أيضاً انقسام “اقتصادي”، كما يقول كروغمان، إذ “الناخبون الزرق والحمر يعيشون في اقتصادات مختلفة، والمناطق الممثلة بالديمقراطيين تقدّم ثلثيْ الدخل القومي”. لا يقين بالنسبة إلى من يغلب من: العلم والحاجات والتكنولوجيا والفكر أم الجهل والخرافات ونظريات “المؤامرة” التي يروّج لها أنصار ترمب؟ ولا يقين حول مرحلة ما بعد الانتخابات: هل تحدث حرب أهلية مسلحة أم صدامات متفرقة في حرب سياسية عنصرية باردة؟
بايدن يركز على نقطة حساسة ومهمة هي “سياسة للطبقة الوسطى” التي أصيبت بضرر كبير، ولا ديمقراطية فعلية من دونها. لكن السؤال المقلق أمامه هو: ما الذي يفعله جمهور ترمب الكبير والمتماسك والمتحمس؟ وهل يمكن بالفعل توحيد الشعب الأميركي وحتى تفاهم الحزبين الكبيرين على المواضيع الأساسية؟ مجلس الشيوخ الذي يقوده زعيم الغالبية الجمهورية ميتش ماكونيل ينتظره على المنعطف. والمحكمة العليا التي صار معظم قضاتها جمهوريين بالمرصاد. وجمهور بايدن يجمعه شيء واحد هو التخلص من ترمب.
يقول وودورد في “غضب” إنه عندما يؤخذ أداء ترمب ككل، فإن الخلاصة التي يصل إليها أنه “الرجل – الغلط للوظيفة”. لكن نهاية وظيفة ترمب في البيت الأبيض مرشحة لأن تكون بداية لمرحلة صعبة.