بعضٌ من “مرارة” الديمقراطية* مرح البقاعي

النشرة الدولية –

حطّمت الانتخابات الرئاسية الأميركية للعام 2020 الرقم القياسي لعدد الناخبين الذين أدلوا بأصواتهم لأحد المرشَحين المتنافسين: جو بايدن الديمقراطي، ودونالد ترامب الجمهوري. فالرئيس ترامب حقّق 70 مليون صوت من الاقتراع الشعبي المباشر، بينما تفوّق عليه المرشح بايدن بحصوله على 73 مليون صوت، في فارق ضئيل جدا بينهما. إلا أن تقدّم بايدن في أصوات المجمع الانتخابي جعل فوزه محققا. وخرج إلى العلن إثر خمسة أيام من انتخابات عسيرة مُدليا ونائبته، كاميلا هاريس، بكلمة النصر في مسقط رأسه مدينة ويلمنغتون. أما النتيجة التي أعلنتها وسائل الإعلام، وليس هيئة الانتخابات الرسمية كما يُفترض وهي المكلّفة بهذه المهمّة، فقد كانت عرضة لعمليات مرهِقة من المدّ والجزر بين فوز وخسارة تباينت أرقامها من قناة تلفزيونية إلى أخرى، الأمر الذي أصاب المراقبين بتشويش كبير حول النتائج وصحّتها.

الرئيس ترامب، وبشخصيته المعهودة التي ترفض أي لون من ألوان الهزيمة مهما كانت طفيفة، سارع بإعلان شكوكه في نتيجة الانتخابات على حسابه الخاص في تويتر، متحدثا عن عمليات تزوير شابت الانتخابات عن طريق احتساب بطاقات غير قانونية، بينما بدأ فريق من محامي حملته برفع دعاوى قضائية في عدد من الولايات المتأرجحة التي لم يحسم فيها عدّ الأصوات، وقد استندوا في طعونهم إلى أدلة جمعوها من مراكز اقتراع عدّة تشير إلى مخالفات شابت بطاقات التصويت التي وصلت عبر البريد.

ومن المعروف أن الرئيس ترامب كان قد شكك منذ بدايات إطلاق حملته بمصداقية التصويت عبر البريد، وأعرب في غير مناسبة عن انعدام الثقة بالأصوات التي لا تأتي بالاقتراع المباشر يوم الثالث من نوفمبر حصرا، بل اعتبرها خارجة عن الشرعية القانونية لنظام الانتخابات. وتكاد تكون حملة ترامب التي تأثرت بشكل كبير بشكوك مرشحها تلك، قد ارتكبت خطأ تكتيكيا كلفها خسارة الملايين من الأصوات، وهو عدم تشجيعها على التصويت المبكّر البريدي، بينما قامت حملة بايدن بتشجيع أنصارها من الديمقراطيين على التصويت عبر البريد العادي، فتدفقت الملايين من الأصوات قبيل اليوم الانتخابي بأسابيع لصالح بايدن، وأمّنت مكانا لها بصورة استباقية.

لم يكن الشعب الأميركي منقسما سياسيا، بل ومتحمّسا بهذا الزخم للحضور الفاعل في الشأن العام، منذ أحداث الحرب الأهلية الأميركية قبل ما ينيف على القرن ونصف من الزمن. ولا أعتقد أن هذا الانقسام سيلتئم وتُشفى جراحه على المدى القريب، ولاسيما أن انقساما آخر يشهده الحزب الجمهوري بين مؤيد لمتابعة ترامب ملاحقاته القانونية التي رفعها محاموه أينما شكّكوا بصحة التصويت أو أهلية أرقام العد الانتخابي، وبين رافض يطالب الرئيس الاعتراف بخسارة الانتخابات والالتفات إلى نقل السلطة للفائز بها.

لم يكن الشعب الأميركي منقسما سياسيا، بل ومتحمّسا بهذا الزخم للحضور الفاعل في الشأن العام، منذ أحداث الحرب الأهلية الأميركية قبل ما ينيف على القرن ونصف من الزمن

المنافس الديمقراطي بايدن أدرك ضمن هذا المناخ المحتقن أن عليه أن يتوجّه بخطابه الأول إلى الشعب الأميركي بلغة توحّد ولا تفرّق في خضم هذا الانقسام العظيم في الشارع الشعبي والسياسي الأميركي، ولاسيما أن إعلان الفوز تمّ من طرف واحد قبل انتظار نتيجة الطعون القانونية التي تقدّم بها فريق الحملة المنافسة، ولو أن نجاح هذه القضايا في قلب نتائج الانتخابات يكاد يكون معدوما. وبالفعل توجّه بايدن في كلمته “الرئاسية” إلى أنصار ترامب “مقدّرا تفهّمه لشعورهم في هذه الليلة وطالبا منهم أن يعملوا يدا واحدة، وأن يعطي الطرفان الفرصة لبعضهما البعض في المضي قدما بما فيه مصلحة الأمة الأميركية”، كما قال.

ومن اللافت في خطابه أنه لم يذكر اسم ترامب لفظا، بل قال في كناية بلاغية لمشهد سنوات ترامب في البيت الأبيض إن “حقبة شيطنة الآخر قد انتهت”، وكأنه يختصر صورة العلاقات التي أدار بواسطتها الرئيس ترامب دفّة الحكم في الداخل ورسم علاقاته مع العالم محمّلا الأخير مسؤولية إشاعة شعور رفض الآخر المختلف وتكريسه لسيادة العرق الأبيض على الإثنيات والأقليات الأخرى؛ وهذا أمر يمكن أن يدحض بسهولة إذا ما حلّلنا نتيجة الانتخابات في ولاية فلوريدا التي ربحها ترامب لنكتشف بسهولة عدم صحة ادعاء بايدن واتهامه لترامب بالعنصرية، فأغلب قاطني هذه الولاية هم من الأقليات القادمة من أميركا اللاتينية وهي الشريحة العريضة من الناخبين التي كان بايدن يحرضها ضد خصمه باستمرار.

لم يهنّئ قادة الحزب الجمهوري حتى الآن الرئيس المنتخب جو بايدن أو نائبته كاميلا هاريس، وهم إذ ينشغلون بكل طاقتهم للحشد والتحضير لإعادة انتخابات مجلس الشيوخ في ولاية جورجيا بسبب تقارب نتائج التصويت بين المرشحَين الجمهوري والديمقراطي، ويصرفون تركيزهم لحسم هذه المعركة لصالح الحزب الجمهوري حتى يستمر في القبض على زمام الأغلبية هناك، فإنه في الوقت نفسه يمنحون الرئيس ترامب الفرصة لإطلاق حملته القضائية التي تلت الانتهاء من الانتخابية، والتي ترمي إلى قلب الطاولة على سير الانتخابات برمّتها وصولا إلى المحكمة العليا للفصل النهائي إن لزم الأمر.

المنتصر الأعظم في هذه الانتخابات التاريخية وغير مسبوقة بكل تجلياتها هو صوت الديمقراطية بشؤونها وشجونها كافة، وبضريبتها الباهظة أحيانا. إلا أن متابعة العالم بأسره لمجرياتها، ونضال الأطراف المعنية بالعملية الانتخابية للحفاظ على صوت كل مواطن والإصرار أن يصل ليساهم في اختيار من سيكون خادما لمصالحه في البيت الأبيض، هذا ناهيك عن إظهار الشعب الأميركي رغم الحالة من الفوضى المعلوماتية التي سادت خلال أسبوع كامل من عد الأصوات والنتائج المتضاربة التي كانت تثير امتعاضا وقلقا بالغيْن لدى أنصار المرشحَين، إنما كان برهانا دامغا لروح المسؤولية العالية والسلم والتكاتف الأهلي أبداها الشارع في كلا المعسكرين خلال فترة عصيبة من ترقّب اسم الرئيس الأميركي الجديد.

أما خسارة ترامب لسدّة الرئاسة إن تأكدت بعد انتهاء العمليات القانونية فهي خسارة لفرصة شخص واحد في الحزب وليس كل الحزب. فالحزب الجمهوري الباني للدولة الأميركية ودستورها الذي خطّه الآباء المؤسسون هو صرح سياسي عريق لا يبدأ ولا ينتهي مع الرئيس، ولا يرتبط بمبادئه أو بمستقبله بأفراد بعينهم. فالجمهوريون كما جميع الأميركيين، لا يمجّدون الرؤساء المنتخبين، ولا يجعلون منهم رموزا خالدة أو ينتخبونهم ليستمروا إلى الأبد، بل يرشحون رئيسا للبلاد كل أربع سنوات، ثم يراقبون ويعدّلون أداءَ الرئيس المُنتخب، ديمقراطيا كان أو جمهوريا، من خلال مجلسي النواب والشيوخ، ويحاسبونه بقوة القانون والدستور في حال أساء في إدارة المصلحة الأميركية العليا للبلاد ولمواطنيها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى