“أقتفي أثري” لـ جريس سماوي.. العودة للذات بثوب الأمّ الشرقيّ
د.خليل الرفوع
النشرة الدولية –
يوغل الشاعر جريس سماوي في قصيدته “أقتفي أثري أنقّب عن بلادي” (صحيفة “الرأي”، ٢٣/١٠/٢٠٢٠)، في التاريخ والجغرافيا ليقول ما يريد.. يجتاز المسافات والرسوم والخرائب، ويخترق مداد الكتب القديمة وما خطّه مؤرخو أيديولوجيات الطغاة ليعلن انحيازه للشرق روحا وجسدا، وللأنا الوطن، وللوطن الأنا، وهما المتوحدان في هذا الشرق من جبال طوروس التي تظلّل نهري دجلة والفرات حتى البحر الذي زحزح روما بعيدا عن الشرق بكل ما فيه من هرطقات روحية أو فلسفية أو جمالية.
في كل جملة شعرية من القصيدة ضوء كاشف لعنوان فلسفي مصدره مشكاة الشاعر التي تدهش ليس بإشعاعها المعتق بزيتون الشآمي الذي ما استلبت روحه للآخر الغربي، بل بما تشكل من رؤية عميقة مفتاحها: أنا الشرقيّ الذي أضاء الكون بنور الأريسيين الموحّدين الذين رفضوا أقانيم روما حينما انحرفت عن طريق النبي عيسى عليه السلام؛ فغرقت في ظلمات الدم فلوّثت الأرض التي رعاها قبل ظهور المسيحيّ آلهةُ الشرق المخصّبون الأوفياء: أدونيس الكنعاني، وأرباب الخصب والجمال، وقدموس مع أخته أوروبا ابنا الملك أجينور ملك صور وصيدا وهما اللذان علّما القارة الأوروبية أبجدية الكتابة والوفاء والفروسية، حتى إن أوروبا أخذت اسمها من ابنة ملك صور وصيدا بعدما خُطفت إليها..
إنها بلاد الشام التي عبرت بالعالم القديم نحو مبتدأ الحياة، ومن سواحلها امتدت الحضارات والثقافات حتى وصلت إلى اليونان قلب الغرب، فكيف لشاعرٍ أوتي وعيا وجوديًا أن يرتدي ثوب روما وقد ضاق به ملبسا وشكلا وحجما وزركشةً، وكيف يرتديه وقد طرزته مسلّات مؤرخي الطغاة بظبّات السيوف وأسنّة النصال ولعنات الأرض والسماء.. إنه الشاعر المسيحي الآرامي الذي جهارا عصى روما وأحقاد سافكي الدم وانحاز للشرق بؤرة الكون والرسالات.
وفي لحظة القهر الذي ولَّد التمرد والرفض أعلن الشاعر أن أمه -أو قل أمّته بحقيقتها المطلقة براءة وصدقا ودفئا- هي الصدّيقة العابدة الزاهدة الخاشعة.. لعلها مريم العذراء، ولعله هو المسيحُ الذي في الشرق وُلِدَ وعاش ونبتت دعوته رهبنةً وتسامحا.. لقد خاطت تلكم الأم ثوبَه أو قل رسالة المسيح بإبرة الأمومة وتراتيل الجدات (بيت النبوة المعتق) ليسع الكواكب والنقوش، وليكون وسيلته لاستكشاف الأنا؛ أنا الشاعر المعاصرِ الذي يمثل برمزيته مدنية العالم، فيستحضر وسائل المعرفة المشرّبة برحيق الشرق، فكان الثوب الملكي أو الملائكي الذي صُنع بإبرة الأم العابدة:
“أمّي التي غزلَتْه لي
بيدَين عابدتَين
خاشعتيَن للأسمى
لنبض الله في الإنسان”.
لم يكن ثوب الأم دمويّا خيوطه منسوجة بمغازل روما وإبرها، بل كان ثوبا فسيفسائيا شرقيَّ المعنى والشكل والنقش، عليه طُرّزت شمس كنعان والمدائن القديمة وقديّسو النبوة وزيوت المعابد وقمح حوران وأسرار البحار وشقائق الأرض وزرقة السماء.. فيه دفء الأمومة، وميراث الأهل، وطلاقة الربيع، ورموز الحنفيّة بدءا من إبراهيم وابنه الذبيح حتى بحيرى البُصيري المبشّر العارف، وورقة بن نوفل الذي قال قولته: “إنه الناموس الذي تَنزّل على موسى وعيسى عليهما السلام”، فردّها محمد عليه الصلاة والسلام لهرقل الرومي: “فإنّ عليك إثم الأريسيين (الموحّدين) إن لم تؤمن”. حتى الزاهد آريوس الليبي الإسكندري كان شرقيَّ السلالة والدعوة التي لم يعد لها حضور في كهنوت روما بعد قرار الإمبراطور قسطنطين طمسَ توحيده وتعاليمه:
“قد طرّزتْ ثوبي بُنيّاتُ الزمانِ
وضعنَ أحلامي على الياقات
ألفّن القصائدَ حول أكمامي
كتبن بخفْيَةٍ تعويذتي
أسماءَ أجدادي وأبطالَ الحروب العادلةْ”.
مدن مطرّزة على سطح القماش، ذلك هو الشرق الذي يؤمن به الشاعر، الشرق بكل آثامه وبرّه، وجهله وعلمه، بكل دياناته وأنبيائه وتناقضاته وخرافاته وأساطيره.
وبعدُ، فالقصيدة تمثل عودة للروح بكل ما فيها من انتماء خالص.. إنها عودة المسيحي لبذرته الأولى في الأرض البكر وقد سُقيت بغيم الشرق وأنفاس الصالحين.. هنا الوطن والموطن والشرق والمشرق.. هنا الأمكنة ما زالت تحتفظ بجوهرها لمن أراد أن يفتش في الخرائط ويبحث في التاريخ والجغرافيا، لمن أراد أن يقتفي أثره بعد أن اختلطت آثار الحق بالباطل والحقيقيّ بالمزبف، والحنفيّة بالخرافة.. وطريق الوصول إلى صوت الله في نيسان أو الإنسان أو في نبض الصحراء هو البحث في الذات أولا، واقتفاء أثر الروح بثوب منسوج بأيدٍ لم تلوثها مدنية روما أو دماء سُفكت على قارعة التاريخ بحراب أباطيل الأباطرة.