التاريخ لا يُعبد.. التاريخ يُصنع!
بقلم: وليد بليلة/ باحث مغربي في علوم التاريخ
تصيبني نوبات الحسرة والحزن وتسكنني مشاعر الألم الممزوج بالندم على ما أصبحنا نعيشه نحن المسلمون، أكثر شعوب الأرض عددا، كان لزاما علينا أن نعيش في وضع يناسب عددنا وقيمة ديانتنا، إلا أن حالنا يتقلب من سيئ إلى أسوأ، مجازر نرتكبها ببعضنا البعض، حروب وصراعات ونزاعات بدأت من الأجيال السابقة وستأتي على أرواح الأجيال القادمة، مجاعة وأمراض وبلايا، كراهية وإقصاء للآخر وقسوة واستبداد لا نظير له، وكل هذا نتفنن في تغليفه بأمارات الدين والفقه التبريري.
منذ قرون خلت والأمة التي تفتخر بأنها أمة “اقرأ” تعيش حبيسة سجون الجهل والتخلف والانحطاط والجمود، حيث تعطلت دعوات الاجتهاد العقلي وترسخت أدبيات التقليد النقلي. انقسم المسلمون إلى شيع وطوائف وجماعات تتناحر فيما بينها، كل يدعي صواب رأيه وصدق مسعاه. وطفى اليوم إلى سطح الرأي العام فريقان، الأول لا يزال واقفا على أطلال الماضي، ينادي بأن الحل لانتشال جسد المسلمين من مستنقعات التخلف والجهل يكمن في اتباع وتقليد ما كان يقوم به السلف، ولم يستوعب هؤلاء بأن الظروف الزمكانية الآنية تختلف عما كانت عليه زمن أسلافهم كما قال مؤرخ الحضارة ابن خلدون: (من الغلط الخفي في التاريخ الذهول عن تبدل الأحوال في الأمم والأجيال بتبدل الأعصار ومرور الأيام).
وعلى الضفة الأخرى فريق آخر يرى بنظرة تشيئية تبخيسية للتراث وما يرتبط به، أن الحل لن يتأتى إلا بتبني سياسات الغربيين وثقافاتهم ونمط عيشهم بكل تفاصيلها ومفاصلها، ولا يدرك هؤلاء الذين ينتقدون خصومهم بالتقليد، أنهم كذلك تقليديون من حيث لا يعلمون. ووسط خطابات الفريقين، ينبري التوفيقيون من أعلام المثقفين والمفكرين وأصحاب الرأي السديد، أولئك الذين يحملون هم التوفيق بين أفكار الفريقين السابقين، حيث ينهجون المنهج الوسط ويسخرون قدراتهم ومؤهلاتهم في سبيل بلورة فكر جديد منتج، إلا أن المثير في الأمر أنهم يهمشون وتهمش دعواتهم، وتحارب وسطيتهم من كل جهة.
وفي رأيي المتواضع، فإن كل تلك النقاشات والاصطدامات الفكرية التي تجتذب الرأي العام المسلم منذ عقود -إن لم أقل منذ قرون- محورها (التاريخ) بثقله الكبير وإشكالياته المسيطرة على نسق التفكير لدى المسلمين، وهنا تستحضرني قولة الشاعر الفرنسي بول فاليري: (التاريخ هو أخطر ما أنتجه كيمياء الفكر)، فالمسلمون هم أكثر الأمم كتابة وتدوينا واهتماما بالتاريخ، وفي نفس الوقت هم من أقل الأمم وعيا به. ومرد ذلك ربما إلى الصراع الأبدي بينهم على السلطة والحكم واستماتة كل جماعة منهم في الترويج للشرعية التاريخية وتوظيفها لأجندتهم، وهذا ما يجعل المسلمون في حيرة وتيهان عند مطالعة سير التاريخ ودواوينه المختلفة.
أعتقد أن على المسلمين اليوم أن يستوعبوا حقيقة أن سيرورة التاريخ لن تعود بهم للوراء مطلقا وهذا ينطبق كل تلك النظريات اليوتوبية المروج لها منذ عقود، وأنه أي -التاريخ- نتاج تراكم لأفكار وحوادث وعوائد (…) الأمس التي تصنع من خلال تراكمها حاضرنا ومستقبلنا وهو ما يجعله يبلور معادلة تتضمن ثلاث عناصر مرتبطة ببعضها ويصعب الفصل بينها (الماضي- الحاضر- المستقبل).
نمتلك اليوم العديد من القراءات والتأويلات التي راكمها أعلام المفكرين التنويريين المسلمين حول التاريخ الإسلامي وماهيته، إلا أنها مع الأسف لم تلق اهتماما وتفاعلا إيجابيا لدى العقل المسلم رغم الضجة التي خلفتها بعض تلك القراءات والتأويلات، ومن أبرزها ما جاء به علي شريعتي، علي الوردي، الجابري، حسن حنفي، عبد الرزاق الجبران وغيرهم…
لقد أصبحنا نعيش اليوم على واقع تقديس التاريخ وشخوصه وأخباره، ووصلنا مع عقد النقص الذي تتملكنا إلى درجة التخمة من كثرة تكرار آثار السلف وصنائعهم بشكل يغذي مشاعر الفخر والاعتزاز لدينا، وهو أمر محمود ومقبول، إلا أنه يجب أن نؤمن بأن التاريخ خلق ليصنع ويكتب في كل يوم من حياة البشر وليس متوقفا عند زمن من الأزمان أو حقبة من الحقب.
وبعيدا عن سياسات الاستبداد والاستبلاد التي دمرت أوطاننا وجعلتها أراضي خصبة لدعاة التفرقة والإرهاب والكراهية والعنف، نحتاج اليوم أكثر من غيرنا إلى التوفر على تعليم منهجي موضوعي يستثمر كل ما توصل إليه العالم على مستوى التكنولوجيا والعلوم والمعارف المختلفة المشارب، ليقدم تكوينا دراسيا عاليا للعقل المسلم يستهدف بناء وعي تاريخي سليم وثقافة إيجابية منتجة غير مستهلكة، وفكرا إسلاميا حرا يغترف من بحار القيم النبوية المحمدية الداعية إلى الرحمة والتسامح وتقبل الآخر كيفما كانت درجة الاختلاف معه.