عشوائيات في الحب – العشوائية 52… النَّفْسُ الَّلوامَة
د. سمير محمد ايوب
النشرة الدولية –
على غير عادتي، إلتقيتُ مِرآتي عابسَ الوجه. فأدركتُ ساعَتَها أنني لستُ بخير. فتألمتُ، لأني منذ زمنٍ بعيدٍ، لم أشاطِرَ نفسيَ المُطْمَئنَّةِ بعضا مِمّا تُعاني. إشْتَقتُ لِخلْوةٍ معها. فهي في لُجَّةِ الإختناقات والجعجعات اليومية، حائرةٌ تائهةٌ مثلي.
على عتباتِ مساءٍ تشريني جميل، كنتُ أرقُبُ قُطعانَ غيومِه، من على مرتفعاتِ السلط المُطلَّة على بانوراما أغوارِ بيسان وأريحا ، غربي نهر الأردن. كانت غيوم ذاك المساء، بيضاءَ يَشوبُها شيءٌ منْ سوادٍ باهتٍ.
إسْتَردَّني من الأفق المُمتد حتى أضواء القدس ونابلس، رذاذُ مطرٍ حَيِيٍّ. سرعان ما كانت قطراته تذوي في رحم الأرض العطشى. حينها قرَّرتُ الرحيلَ إلى حَوَّاماتِ نفسي، بعيدا عن المُعاش من ضجيج.
إحتضنتُ نفسي بين ذراعي مُعانِقاً مُتأرجِحاً يَسرةَ ويَمنة، قبل أنْ أحَرِّرَ النَّفْسَ الَّلوّامَةِ، منْ قيودِ الجسدِ ومُستلزماتِه المُخادعة. حاذَيتُها مُجالِساً مُنْصِتاً، لِتفاصيلِ وَخْزٍ كُنتُ منذُ أمَدٍ، أرجِئُ الإستماع لهُ، ولا ألقي له بالاً.
قبلَ أن أُفاجَأ بشيءٍ منْ عَتْمِ الأفُقِ المُترامي أمامَ ناظريَّ، أغلقتُ سمعيَ وبصريَ عن كل ما حولي، وضَبطتُ بَصيرَتي على عَزْفِ تفاصيل صغيرة كثيرة في دفاتر العمر، معلقة على جدران برزخ مُمْتدٍّ بين العقل والقلب.
في لحظة، وأنا لا أعلم ما كان الصمت يُخبئ لي، إنْشَقَّ قمرٌ أو هكذا خِلْت، وإنْتَثَرَت نجومٌ أو هكذا تَوَهَّمْتْ. تَمتمتُ لنفسي بصوتٍ كسيرٍ، وكأنِّي أُكْمِلُ دردشةً كانت قد إبتدأت منذ حين: … ولكن، كلُّ شيءٍ في حياتي، يَنقُصُه شيء.
سَمعتُ ساعتَها صوتاً هاتِفاً: لِضَبْطِ فوضى عقلك يا رجل، تصالَح بمرونةٍ مع وقائع قلبك، ولا تعتمد كثيراعلى الظروف وألارتجال والحظ. فمهما كُنتَ نمرودا أو مُتمردا أو جبارا عِتِيَّا ً، هناك إمرأةٌ تَستَحقّها، إنْحنيتَ ضعيفاً أمامَ مكانتها المميزة في قلبك، لا ذُلاًّ بالطبع، ولا خَوفاً بالتأكيد.
تلَفتًّ يَمنةً ويَسرة، أطاردُ الهاتِفَ، مُتأتأً: كَثرةٌ هُنَّ، لا يتشابهن، لكلٍّ بصمتها وحِكايتها. أكثر من واحدةٍ شَدْشَدَتْ مَفاصلي وفَواصِلي. وأحْدَثَتْ تَغييراً في أبجدياتي، حتى بِتُّ لا أدري عمَّنْ أحَدِّثُك، وبمن أبدأ.
أعانني الهاتف وهو يعاود القول: الخيرة فيمن تختار وتبدأ، فقط قُلْ.
فقلت بتردد: إني مُحتارٌ. ففي كلِّ دربٍ في معارجِ ما قد مضى من العُمرِ، إلتقيتُ يَمامةً ، أو غمامةً ، أو صقراً ، أو بازا ، أو عندليبا أو شيهانة. مع بعضهن أرْسيتُ شيئا منَ العمر الجميل. فكُنَّ صدرا صبورا بإحسان. حمَلَ عِبءَ أثقاليَ بِلا تمنينٍ. وأبْحرتُ حِيناً برفقة البعضِ منهن، في بحارٍ مَوْجُها مُتلاطم ، ومع بعضهن أضَعْتُ أكثرَ
من شروقٍ مُدْرّكْ، فبَقِيَتْ بعض أفراحيَ مُؤجَّلَةً، وأخرياتٍ أبْعَدْنَ عنّي أكثرَ من غروب، وأبْقينَ شيئاً من بُكائي مُؤجلا.
في زحمة الشوارع، وسلالِمِ الأزقةِ وعَدِّ السنين، تَسَرَّبَ من قلبي البعض، فإزْددتُ شقاءً بالتأمل. وإنسحب البعض عن عتباتِ عقلي، فإزددت سُكونا . بعضهن كورق الخريف، مع أوَّل نسمةٍ تشرينيةٍ تساقط، وبعضهن كطيور السِّمانِ أو السنونو، مع أوّل هبَّةِ بَرْدٍ هاجر بحثاً عن دِفءٍ مَوْهوم. وقِلَّةٌ هَجَرَت أو هُجِّرَتْ. وبعضُ البعضِ كالضِّباعِ نَهَشَتْ بِنَهَمٍ لئيم، أو كالجوارح خَمَشَتْ وخَرْمَشَتْ. من البعض تعلمتُ كثيرا من أبجدياتِ العقوقِ اللئيم والوفاء النبيل.
بالرغم من كل ذلك ، مع مواكب الحياة مَضينا ، كلٌّ في طريق. بعض شِعابها هَبَطْ للأس، وأكثرها لحسن الحظ صَعَدْ. تبادلنا خلائط من المشاعر. إخْتَصمنا بأدب بلا عوائق، وبلا حناجر تأنيب، أوخناجر لا تغفر. إقتسمنا وِئاماً مُهَذّبا بكرمٍ إيجابي، غير مُتقلِّبٍ أو مُتَرنِّحٍ.
بالتأكيد، لا زال لغياب البعض، نبرةٌ تُمزقُ القلبَ ومُتلازماته ومناجمه ولكن مُضطرا، كان جهازيَ العصبي، مُسبَقاً قد بَرْمَجَ نفسه وتكيف.
أحْسَستُ ساعتَها ، بِيدٍ تُربِّتُ على كَتفي وهاتِفٌ يَسأل: بِحكايَة ْ مَنْ ستبدأ ….؟!
تنَهدْتُ مُجيباً: لا تَتَعَجلي يا نفسُ، فأنا الآن بأمَسِّ الحاجة لِشلالٍ من القهوة معها، قبل الحديثِ عن أيٍّ ممن تركن أجمل البصمات في حياتي وما زلن .