عشوائيات في الحب – العشوائية 53 التَّجاوُرُ والتَّقاطُعُ في القلب* د. سمير أيوب

النشرة الدولية –

إعْتَدْتُ بعد صلاةِ كلِّ أحدٍ، التَّرَيُّض في الباحة الداخلية للكنيسة، لثرائِها بِبَواسِقِ شجَرٍ تداعبه فُيوضٌ من نسائم الربيع. يُشجيني حفيفُ أوراقها، ويُنعِشُني عبقُ ياسمينٍ يحتضنُ بعفويَّةٍ أغصانَها. تُساعدني تفاصيلُ هذا المشهد على ترتيب أسئلتي، والتَّخفُّفِ منْ حيرتِها. جلَسْتُ بعد تريُّض الأمس في الشمس، مُنصِتا لتقاسيمِ حسّون، يعزفُ على سجيَّتِه وهو يتقافز برشاقة وحيدا، على شجرة لوز قُبالَتي.

باغَتني صوتٌ أنثويٌّ رخيمٌ، بمرحٍ ودودٍ يسأل: أراك سابحا في ملكوت الله يا شيخنا، إلى أين أوصلَك هذا العزْفُ الشَّجِيُّ؟! حدَّقتُ، تَلَفتُّ، وحين استدرتُ وجدتُها ورائيَ مُنتصبةً كالرمح.  وقَفْتُ فَرِحا واحتراما، لسنديانةٍ باسقةٍ نبيلة الجمال كعادتها. كنا قد إلتقينا في بواكير الشباب في لبنان. ترافقنا في مركز الأبحاث، والهلال الاحمر ، والمركز العربي لبحوث الاصابات، وبعد زواجها في معامل أبناء شهداء فلسطين.

ونحن نتمشى في ممرات الباحة، قالت تُكْمِلُ أخْبارَها: خذَلَني عقليَ منْ بعدِه ولمْ أمُتْ. وسقط قلبيَ وما جَثَوْتُ. تابعتُ الصَّبرَفي مواجهة اهتزازات الطريق. قرَّرتُ التَّوكّأ على قدَمَيَّ، وتنويعاتِ التّجاهل. خَلَّقْتُ موسيقايَ لأنهضَ على وقعِها كلَّما تعثَّرتُ، حتى غدا التَّعثُّرَ والنهوضَ جدَلا يوميا، أستند عليه في حياتي، ونجماً أهتدي به كلّما نظرتُ حولي.

مع أول كلِّ مطرٍ، تتوالدُ ذكرياتي عناقيدا منْ فرحٍ ومن دمع. فمعَ أوَّلِ المطر قبل أربعين عاما، في حرم مدرسة أبناء الشهداء، في مدينة سوق الغرب من شوف لبنان، إلتقيته أول مرّة، كما تعلم. وفوق سطح واحدة من سفُنِ التِّيه والتَّتْويه، التي أقلتنا بالغَصْب من لبنان إلى تونس الخضراء، زَغَّبَتْ أحلامُه وأحلامي. وفي مِنْطَقةِ حَمّام الشَّطْ في تونس العاصمة نَبتَ لها ريش. ومع أوَّلِ زخَّاتِ مطرٍ قبل عشرٍ منَ السنين ، نتَّفَتْ قسوةُ المرض ريشها. برحيلِه صرتُ مهيضةَ الجناح. مضى وبقيَ مُسافرا في دمي، روحُه تُجاور روحي. أرجعُ إليه كلَّما مالَ بيَ حالٌ. فهو كما تعرفه، مِمَّن لا يموتون ولا تُشيِّعُهُم ذاكرة.

بَقِيتُ في عالم الغيب على قيدِ انتظار. أحاول بكآبةٍ احتمالَ تبعاتِ التَّغيُّر، ومواصلةِ التَّصدِّي لمخاطره. طال بردُ المُواجهة ، تَمدَّد وتعمَّق واستبدَّ. تَعبتُ وفَقدتُ الكثيرَ منْ ثَباتي، والقدرةَ على مواساةِ روحي. فقرّرْتُ الاستلقاء لالتقاطِ شيءٍ من أنفاسيَ اللاهثة، أنتصرُ بها على صبريَ الحزين، ومقاربَةِ الحياةِ بشجاعةٍ منْ جديد.  فقد كان الراحل وهو يمضي، قد تمنى عليَّ، أن لا أحتفظ بالأجزاء الفاقدة للحياة، أكثرَ مِنْ أربعَةَ أشْهُرٍ وعَشْراً.

توقَّفْنا، وما أن جلَسنا قُبالَة بعضٍ، قاطَعتُها سائلا بِجدية وحَزم: وقد ملَلْتِ البقاء بين فواصل الحياة وحيدةً منْ بعدِه، ما الذي أعاقك كلَّ هذه السنين، وقد بات قهرُ الموتِ وترابَ القبر فاصلين مُشْهرَيْن بينكما؟!

بذكائها المُفرِط أدرَكَت ما تَشي به عينايَ، فتابَعَتْ دون أن تدَعني أُكْمِلُ أسئلتي: كنتُ بانتظار خُطوةٍ منْ أحدهم، لأكسرَ سبعينَ حاجِزاً من التردُّدِ وحاجِزٍ. وعندما جاء بعد سنينٍ عجافٍ ، أغْمَضْتُ عينيَّ بقوةٍ على ما أنا فيه، عَنَّفتُ تردُّدِي الذي لا يُحِبُّ ما يَحدُث، ولا يَحدُثُ في ظلالِه ما أُحِبُّ، فقرَّرْتُ.

في وضحِ شمسِ ظُهرِالأمس، بكامل زينتي التي يُحب، جئتُ الراحل في مثواه. حيَّيتُه واحتضنتُ شاهدَ القبر، وبدمعي وشْوَشته: ما زلتُ كعهدِكَ بي. وما زلتُ أمْقتُ العيشَ مُتفرِّجَةً على الحياة، أو الضَّياعَ في دروبِها المسدودة. فشلتُ في حمايةِ قلبي منَ الوِحدة. قبلَ أن أجيؤك، تبصَّرْت طويلا فيما كنتَ بحبٍّ صادقٍ قدْ أوصيتني به. أذكرُ أنك قد نصحتني بتجنُّبِ البقاء مطولا، معلَّقةً في منتصفِ الأشياء من بعدك. والأن، وقد تسلَّل إلى تفاصيليَ، منْ يكادُ أنْ يُشبِهَك، ما قولُك يا رفيقَ ما قدْ مضى منْ عُمْر؟!!

صَمَتَتْ وعلى وجهها لوحةٌ من دمعٍ وفرَحٍ. إعتدَلَت وهي تتنهَّدُ قبلَ أنْ تُحاولَ إشباعَ فضولٍ حيِّيٍ يتجول طليقا في عينيَّ. قالت وكفَّاها يحتضنان خدَّيْها: سأنتقي لك شيئا مِما تمنى عليَّ. أوْصاني بالتَّدرُّجِ الحكيمِ في إسقاط أقنعةٍ كنتُ أظنُّها أغلى منْ فِطرَتي.

بعدَ اللقاء هدَأتْ روحيَ المُنْهَكة وانتعشَتْ، وسقطَ الكثيرُ مِما يَحتلُّني منْ تردُّدٍ، وباتَ الوقتُ مُناسبا للاستثمار في قلبي. فقرَّرْتُ المجيء إليك، لتكونَ ظُهرَغدٍ مع أولادي وأحفادي، عرَّابَ زواجي من سعدٍ إنْ شاء الله.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى