الأمير عبد القادر الجزائري في زمننا

النشرة الدولية –

تحت عنوان “الأمير عبد القادر، مثال أخلاقي لزماننا”، دعت جمعية “كونفيفانس” (تعايش) الفرنسية مؤخراً إلى لقاء على المنصة، وذلك في ذكرى “أحداث الفتنة التي وقعت في سوريا صيف 1860، والموقف الإنساني الذي قام به الأمير عبد القادر. افتتح هذا اللقاء الأب كريستيان دولورم والباحث أحمد بويردان، وتبعهما عدد من المحاضرين.

 

تتعدّد وجوه الأمير عبد القادر الجزائري، فهو رائد المقاومة ضد الاستعمار الفرنسي منذ النصف الأول من القرن التاسع عشر، ومؤسس الدولة الجزائرية الحديثة. وهو أديب شاعر ومتصوف ترك العديد من الكتابات. وهو من دعاة السلام والتآخي بين الناس على اختلاف أجناسهم وأديانهم، بشهادة كل الذين عاصروه، وهذه الصورة هي التي تبرز اليوم.

 

وُلد الأمير في قرية القيطنة الواقعة على وادي الحمام، وحمل اسم جده الذي جاء من المغرب إلى الجزائر وأسس زاوية صوفية تتبع طريقة الإمام الولي عبد القادر الجيلاني، ونشأ في هذه الزاوية التي كان يتكفل بها أبوه محيي الدين، ثم تابع دراسته على أيدي عدد من كبار العلماء. مرّ في شبابه بمصر، وأعجب بالإصلاحات التي تحققت في عهد واليها محمد علي باشا، ثم انتقل إلى الشام حيث تابع دراسته في الجامع الأموي، وتوجّه بعدها إلى بغداد، وتوقف عند ضريح الولي عبد القادر الجيلاني، ثم عاد إلى الجزائر، وانضم إلى صفوف المقاومة بعد وقوع بلاده تحت الحكم الفرنسي في صيف 1830، ودخل في مواجهة مفتوحة مع المستعمرين انتهت بأسره في فرنسا حتى عام 1852 حين أطلق نابليون الثالث سراحه، فتوجه إلى اسطنبول، ومنها انتقل إلى دمشق العام 1856، وتفرّغ  للقراءة والفقه والتصوف، وعمل مدرّسا في المسجد الأموي، وتوفي في دمّر العام 1883، ودُفن بجوار ضريح الشيخ محيي الدين بن عربي الأندلسي عند سفح جبل قاسيون.

 

شهد الأمير الجزائري المعارك الطائفية الدامية التي امتدت من جبل لبنان إلى العمق السوري في 1860، وكان له الدور الأكبر في الدفاع عن مسيحيي دمشق في تلك المحنة، كما تجمع المصادر المحلية والأجنبية. نقل ميخائيل مشاقة، وقائع هذه الفتنة الدامية ونشرها في كتاب حمل عنوان “مشهد العيان بحوادث سوريا ولبنان”. وسجّل شاهين مكاريوس مشاهداته في كتاب بعنوان “حسر اللثام عن نكبات الشام”. وسلّط كلاهما الضوء على الدور الكبير الذي لعبه الأمير عبد القادر في الدفاع عن مسيحيي دمشق.

 

نصارى المدينة

بحسب رواية مخائيل مشاقة، تعمّد والي دمشق أحمد باشا إثارة المسلمين، ودعاهم “إلى الفتك والتحرّش بالنصارى”، ونجح في ذلك، فكانت “المذبحة العظمى والمصيبة الكبرى والنكبة التي ليس فوقها نكبة، عمّت نصارى المدينة، وكادت تكون القاضية عليهم”. سعى الأمير عبد القادر الجزائري إلى إيقاف هذا الهجوم، فاجتمع بأحمد باشا وأعضاء مجلس الشورى، وطلب منهم المساعدة لوضع حد لهذه المذبحة، وسانده في هذا السعي مفتي الولاية طاهر أفندي، غير أن الحاكم امتنع عن ضرب المعتدين. عندها، حوّل الأمير “اهتمامه لتخليص من يقدر على خلاصه من العيال والرجال، بيّض الله وجهه”. وبعث برجاله، وأوصاهم “أن يحضروا إليه من النصارى رجالاً ونساءً وأطفالاً وكلّ من يقدرون على الوصول إلى تخليصه”. وحذا أسعد أفندي حمزة حذوه فسار مع رجاله “وأغاث الألوف”. وكذلك فعل الشيخ سليم العطار وصالح أغاشور وسعيد آغا النوري وعمر آغا العابد، فجاؤوا إلى حي الميدان، “ودافعوا عن سكانه دفاعاً مشكوراً”.

 

تتقاطع رواية شاهين مكاريوس مع هذه الرواية بشكل كبير. كانت علّة الحرب “طمع بطريرك الموارنة في مد نفوذه وتعصبه على كل من خالفه مذهبه”، وأوقد نيران هذه الفتنة “الدروز الذين رأوها خير واسطة للدفاع عن استقلالهم ولقهر الأعداء وإذلالهم”، وشدّد وطأتها “الأتراك بدسائسهم ومكرهم وعدائهم للطائفتين، ولو لم يقم الدروز يومئذ على النصارى بإغراء الحكام، لأغرى الأتراك النصارى أن يقوموا على الدروز ويذبحوهم”.

 

مذابح

بدأت هذ الحرب في 1845 حيث “هجم الموارنة على كافة القرى التي اجتمع فيها الدروز ما خلا المختارة”، وكانت لهم الغلبة في أول الأمر في الشوف، غير أنهم خسروا بعدها، وتتالت هزائمهم. فكانت مذابح دير القمر، ثم مذابح المتن والساحل، ثم مذابح صيدا ونواحيها، ثم “واقعة زحلة” و”ما أصاب بيروت ونواحيها”. امتدت هذه المذابح إلى دمشق حيث ساد “القتل والذبح والتعذيب والهتك”، وجاهد الأمير الجزائري في التصدي لها.

 

يروي شاهين مكاريوس: “وُجد في وسط أولئك الوحوش الظالمين رجل عظيم المقام، رفيع القدر، عالي الهمة، كثير التمسك بفضائل الإسلام، شريف في الحسب والنسب، أمير ساد بالسيف وساد بالأدب، بطل مغوار وليث كرار شهد الحروب والأهوال وفعل فيها فعال الأبطال، وكان أخصامه في أيام عزه أناس من المسيحيين، فحاربهم كما يحارب الرجل الرجال، ولما خانه الدهر وضاعت مملكته من يده، آثر الانزواء في دمشق ليقضي بقية عمره الشريف في ما يرضي الله، وكان يكره قتل الضعفاء بالدسيسة والغدر، وينهى عما يحرّمه دين المسلمين، فظهر من بين تلك الجموع المنحطّة مثل لؤلؤة في وسط حجارة صماء سوداء، وعلت نفسه علواً كبيراً عن دسائس الأتراك ومكايد المفسدين وأفعال المتوحشين. هو السيد السند والفرد الأمجد والبطل الأوحد، الأمير الخطير والمليك الشهير عبد القادر الحسني الجزائري. هذا هو الرجل العظيم الذي اشتهر بالمروءة والنخوة بين جماعة من المفسدين والجبناء والساقطين واللؤماء والغادرين”.

رجال الأمير

بعث الأمير برجاله ليلاً ليقودوا النصارى إلى السرايا ويردوا عنهم جموع الهائجين، وجمع هؤلاء المساكين في داره، وأخذ “يطعمهم ويسقيهم من ماله ويواسيهم ويلطف أحزانهم ويعدهم بتخفيف الكرب ويهدّئ روعهم، وما سمع الناس بأشرف من هذا السيد العظيم”. أثار هذا الموقف المعتدين، فتجمهروا حول داره وطالبوه بتسليم النصارى، فنزل إليهم، وأنّبهم بشدّة، فعادوا إلى أعقابهم. في هذا السياق، يذكر شاهين مكاريوس طائفة من “كرام المسلمين وأصحاب العقل” الذين دافعوا ما استطاعوا عن المسيحيين، ومنهم الشيخ سليم العطار والشيخ مسلم الكزبري وصالح آغا المهابني وعمر آغا العابد والعلامة الشيخ عبد الغني الميداني.

ظهرت صورة الأمير عبد القادر كمخلّص للمسيحيين في عدد من الرسوم الطباعية الأوروبية التي تناولت أحداث 1860. وبقيت هذه الصورة حية في النفوس، وتكرّست مع مرور الزمن، وبات الأمير الجزائري مثالا أخلاقيا كما يُقال اليوم. في 26 أيار/مايو 1933، ولمناسبة مرور خمسين سنة على رحيله، حيّا الشيخ يوسف الخازن ذكرى “صاحب السيف والقلم، وفارس المكارم والمحامد، قائد الصواهل في ميادين الوغي، وحاشد الرواحل في مناسك التقى، المرحوم المغفور له الأمير عبد القادر الجزائري طيّب الله ثراه”. وأضاف: “ومآثر الرجل أكثر من ان تحصى وأشهر من ان تذكر وقد ذاعت في الشرق والغرب فجعلته علما من أعلام القرن التاسع عشر، فتغنى بذكره شعراء الافرنج قبل شعراء العرب”.

 

حفيدات

بعد استقلال الجزائر، نُقل جثمان الأمير عبد القادر من دمشق إلى موطنه، وتم دفنه في مقبرة العالية، في مربع الشهداء الخاص بالشخصيات الوطنية الكبيرة. في 15 تموز/يوليو 1966، نشرت مجلة “الحوادث” في المناسبة مقالة حملت عنوان “الأمير عبد القادر الجزائري في رأس بيروت”. وكتب رياض شرارة في مقدمة هذه المقالة: “في نفس الوقت الذي كانت تجري فيه بدمشق احتفالات نقل رفات الأمير عبد القادر الجزائري إلى موطنه الأصلي الجزائر، كانت ثلاث حفيدات له في بيروت يرقبن الاحتفالات بعين دامعة وقلوب كبيرة، يغمرهن شعور غريب بالاعتزاز لا يدركه إلا من كان جده بطلاً”.

 

في منزلها الكائن في رأس بيروت، تحدثت الأميرة اسما بنت علي بن عبد القادر عن جدها، وقالت: “للأسف لم اعرف جدي، مات قبل أن أولد، انما فتحت عيني على بطولاته، فذكراه نهر من النار يجري في عروقنا جميعاً”. ملأت الحفيدة المنزل البيروتي بعشرات الصور التاريخية الخاصة بالأمير، كما كشفت عن مجموعة من “أشيائه الصغيرة الباقية”، ومنها “بعض من ملابسه: عباءة، طربوش، زنار، ختم، تاسومة للصلاة، سبحة، ولفة مغربية”.

كذلك، تحدثت الأميرة نجاة، كريمة الأميرة أسما، عن الأمير الكبير، وقالت انها تحفظ شعره، وذكرت من هذا الشعر:

ومن عادة السّادات بالجيش تحتمي

وموُقد نار الحرب إذْ لم يكن صالي

وإنْ جالَ أصحابي فإنّي لها تال

فيشكر كلُّ الخلق من حسن أفعالي

وبي يحتمي جيشي وتُحْرَسُ أبطالي

 

روت الأميرة نجاة “عن أبيها مختار، زوج الأميرة اسما، أنه عمل مجاهدا لقبول الجزائر عضوا في جامعة الدول العربية، كما انه كان على اتصال مع كبار الشخصيات العالمية، وآخر مآثره كانت اتصاله بالبطريرك المعوشي للتوسط مع فرنسا، لحماية أرواح المجاهدين الجزائريين مقابل حماية عبد القادر لأرواح المسيحيين أثناء فتنة 1860”.

 

وختمت الأميرة نجاة حديثها بالقول: “وهكذا نرى بأن الأمير أورثنا بطولات وأمجادا ما زالت تسري في عروقنا وتدفعنا للقيام بكل جليل من الأعمال، هذا عدا ان التراث الذي خلفه لنا، يدعنا نلاقي الترحاب الكبير في كل البلاد العربية التي نزورها، وهذه نعمة لا ينالها إلا القليلون”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button