سيدة الصباح “فيروز”… غنّت ما يقارب الألف أغنية وأغنية عن الإنسان والوطن
النشرة الدولية –
خمسة وثمانون عاما مرّت على ولادة فيروز رمز الأغنية العربية الشامخة والتي اقترن اسمها بالمعدن النفيس، لتكون ملهمة كل الأجيال وصوت كل الصباحات وبلسم كل الجراح عبر سيمفونية غنائية اتّفق كل العرب على تفرّدها وتميّزها وتجذّرها في الذاكرة والوجدان.
تقول الأسطورة: في مثل هذه الأيام من شهر نوفمبر من عام 1935 ولدت في حي زقاق البلاط ببيروت، طفلة اسمها نهاد رزق وديع حداد. غنّت في سن لا يتجاوز الست سنوات، وأتقنت الصبية المسيحية الخجولة تجويد الآيات القرآنية على يد محمد فليفل (واضع النشيد الرسمي السوري) حين كانت في كورال الإذاعة اللبنانية، ثم غنّت “يا زهرة في خيالي” فانبهر بصوتها حليم الرومي، الذي قدّمها إلى إذاعة دمشق، ولحّن لها أغاني ما زلنا بالكاد نستمع إليها في أسطوانات قديمة؛ ولندرة صوتها أطلق عليها اسم “فيروز” كحجر نفيس وغريب الروعة والجمال.
نعم، فيروز آخر أسطورة ما زالت تعيش بيننا، تأكل الطعام وتمشي في الأسواق، وتعدّ قهوتها الصباحية وهي تستمع إلى “فيروز” ونشرات الأخبار، تمازح ولديها، تطلق النكات والتعليقات رغم جديتها الظاهرة وندرة تصريحاتها الصحافية.. وتسكن مدينة لم تغادرها حتى في أحلك أيامها حين “ولعت الدنيا، وقام ناس ضد ناس”.
لقاء فيروز بعاصي ومنصور الرحباني، كان أشبه بشرارة قادمة من جبل الصوان، بعد “عتاب” كأول أغنية حب أدّت إلى زواجها من عاصي عام 1954 واستقرارها في منزل ضاحية أنطلياس الجميلة. ومن يومها صارت “جارة القمر” بعد أن غنّت “نحن والقمر جيران”؛ وبالفعل، ما زال القمر يجاور ويحاور شباك بيتها حقيقة لا مجازا.
85 عاما والأسطورة تسكن أرض لبنان، حتى وإن طافت بلاد العالم وانبهر بها الجميع؛ إنها أشبه بالموناليزا تحت سماء باريس.. لا بل أشد إدهاشا لأنها تتنفّس، تتحرّك، تبتسم أحيانا وتحزن وتصمت أحيانا كثيرة.
غنّت ما يقارب الألف أغنية وأغنية، وعند كل مقطع يسترجع السامعون أنفاسهم ليقولوا “الله”.. إنها آخر من يذكّر بوجود صانع الجمال وتجلياته على وجه البسيطة.
كل أغنية تؤديها فيروز يصبح لكلماتها طعم آخر: من “يا جارة الوادي” لشوقي وعبدالوهاب، مرورا بـ”الفجرية” لسيد درويش، وانتهاء بالموشحات الأندلسية التي تجعلك تحسّ بأن ناظميها قد وضعوها لصوتها ثم ماتوا وهم ينتظرون ولادة فيروز كي تغنيها.
غنّت الفولكلور اللبناني فسافرت به إلى العالمية وتمايلت على أنغامه أعمدة وأدراج بعلبك وكل مسارح العالم، كما “لبنن” وعرّب لها الرحابنة موسيقى عالمية فوضعوا لموزارت كلمات “يا أنا يا أنا وياك”، ثم جاء ابنها فحوّل قطعة الإسباني خواكين رودريغو، المشهورة بـ”مونامور” إلى أغنية “لبيروت” فاستقبلها جمهورها دون أن يسأل عن ملحنها الأصلي، وكذلك فعل الرحابنة بمقطوعات موسيقية كثيرة حتى خيّل للناس أن أصحابها الأصليين قد اقتبسوها من الرحابنة، وتلك عبقرية تحسب لعاصي ومنصور (وحتى إلياس في “كان الزمان وكان”).
أدّت فيروز التراتيل الدينية في منتهى الروعة والرهبة والخشوع، وكان آخرها صلواتها وتوجهاتها بالدعاء من أجل خلاص البشرية من جائحة كورونا، وكان ذلك من خلال إطلالتها على محبيها عبر مقطع فيديو قصير بثّ في قناتها الشخصية على موقع يوتيوب، وهي القناة التي تديرها ابنتها ريما.
وفي المقطع تجلس فيروز في أحد أركان حجرتها، حيث تردّد “لكلماتي أصغ يا رب، تأمّل صراخي، استمع لصوت دعائي يا ملكي وإلهي لأني إليك أصلي، أوجّه صلاتي نحوك وأنتظر”.
وسبق أن أنشدت نهاد حداد قصيدة سعيد عقل الشهيرة “غنيت مكة أهلها الصيدا والعيد يملأ أضلعي عيدا” في لحن رحباني آسر، أيقظ المشاعر وبيّن مدى انفتاح الأغنية الفيروزية على بقية العقائد والأديان دون انغلاق مسيحي كما يظنّ البعض ممّن يريد تصنيفها في خانة ميليشياوية ضيقة.
وفي هذا الصدد، من منا لا يتذكّر أغنيتها الأيقونة الموجهة للقدس “لأجلك يا مدينة الصلاة أصلي.. عيوننا إليك ترحل كل يوم، تدور في أروقة المعابد، تعانق الكنائس القديمة وتمسح الحزن عن المساجد”، وذلك في مزج لحني يربط ويزاوج بين قرع الأجراس ومقام رفع الأذان.
ثمانون عاما من الغناء دون أن تغرب شمسها. اتفقت على سحر صوتها جميع الأجيال، ورافقت غناءها كل الآلات الموسيقية شرقية وغربية. لم ترضخ للعيش الأزلي تحت عصا المايسترو عاصي أو منصور، لكنها لم تفارق تلك النكهة التي عمل ابنها زياد على تطويرها.
غنت فيروز لفنانين وشعراء خارج الأسوار الرحبانية كفيلمون وهبي وزكي ناصيف وتوفيق الباشا ومحمد عبدالوهاب لحنا، وجبران خليل جبران ونزار قباني وطلال حيدر وفايز خضور، شعرا وكلمات.
فيروز ظلت تغني للإنسان والوطن والأديان لكنها أبت أن تغني باسم زعيم، وكانت لها في هذا الصدد مواقف حازمة، ممّا جعل سياسيي العالم يقفون لها احتراما وتبجيلا، وكان آخرهم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي استقبلته في بيتها أثناء زيارته لبيروت بعد حادثة انفجار مرفأ بيروت.
وخلال زيارته لها، منح الرئيس الفرنسي، الفنانة اللبنانية الكبيرة، وسام “جوقة الشرف” الفرنسي، وهو أعلى تكريم رسمي في فرنسا، بينما أهدت فيروز الرئيس الفرنسي لوحة فنیة، قيل إن تلك الهدية عبارة عن مجسّم من خشب الأرز محفور عليه اسم الرئيس الفرنسي.
السؤال الذي قد يقفز إلى الذهن ويطل برأسه في شيء من المكر هو: من صنع الآخر.. فيروز أم الرحابنة؟
الحقيقة أن الاثنين لا ينفصلان عن بعضهما البعض وإن تنوّعت بعض التجارب التي قد تبدو منفردة، لكنها تدور في النسق “الفيروحباني” إن صحّ هذا النحت اللغوي، ذلك أن لا مطربة تأخذ لحنا من الأخوين الرحباني إلاّ وفي ذهنها صوت فيروز كما هو الشأن لدى جورجيت صايغ أو هدى حداد، كما أن لا كاتبا أو ملحنا يقدّم أغنية لفيروز إلاّ وفي رأسه ألحان وكلمات عاصي ومنصور.
وكما أن فيروز قد تأسطرت أو قاربت الأسطورة فإن الرحابنة كذلك، ففي كتابه “الظاهرة الرحبانية.. مسيرة ونهضة” يسلّط الكاتب اللبناني هاشم قاسم أضواء جديدة على حياة الأخوين عاصي ومنصور الرحباني والمطربة الشهيرة فيروز ويستعرض سمات تلك التجربة الفنية وموقعها طيلة نصف قرن.
يدخل الكاتب إلى زوايا جديدة لم يتطرّق إليها الباحثون من قبل، ويتحدّث عن منزل عاصي ومنصور ببلدة أنطلياس (جبل لبنان)، ويقول إن والدهما حنا الرحباني كان أحد “قبضايات” المنطقة ومطاردا من قبل السلطة العثمانية، وقد استأجر المقهى المعروف بفوار أنطلياس وكان يعزف على آلة البزق بين أصحابه وأفراد عائلته ومن بينهم طفلاه عاصي ومنصور اللذان عاشا طفولة قاسية.
وُلد الطفلان في بيت قديم كانت تملكه أمهما سعدى، لكن العائلة بسبب ظروفها الصعبة عاشت تتنقّل من بيت إلى آخر، ويعلّق منصور على ذلك بالقول “تشرّدنا في منازل البؤس كثيرا، سكنا بيوتا ليست ببيوت، هذه طفولتنا”.
وراء كل رحلة تألق تعب واجتهاد وموهبة وأقدار.. تلك كانت قصة أروع وأشمخ أرزة من أرض لبنان، وسيدة الصباح التي لا صباح من دونها.
وكانت ابنتها ومديرة أعمالها ريما الرحباني، كشفت في مطلع شهر نوفمبر الجاري أن والدتها فيروز بصدد كتابة مذكراتها، مشدّدة على أن فيروز هي الوحيدة التي تملك الحق في أن تكتب سيرتها الطويلة.
بلغت فيروز خمسة وثمانين حولا، وما زالت أيقونة في عليائها وسفيرة لبنان والعرب إلى النجوم. فيروز.. كل عام وأنت فيروز.