لماذا تبالغ الأحزاب الإصلاحية والإسلامية في الاحتفال بفوز بايدن؟* محمد أبو رمان
النشرة الدولية –
لا يمكن إنكار السعادة التي عبَّرت عنها قطاعات واسعة في العالم العربي عطفاً على فوز المرشح الديمقراطي جو بايدن بالانتخابات الأمريكية، رغم عدم إقرار الرئيس دونالد ترامب بالهزيمة بعد.
ينبع رد الفعل هذا من قضايا مختلفة، بما في ذلك دعم القضية الفلسطينية، التي شهدت تدهوراً كبيراً في حقبة ترامب. وتشمل الأسباب الأخرى تراجع الإصلاحات العربية خلال حقبة ترامب، وظهور استبداد عربي جديد.
ومع أنَّ بايدن يروّج للقيم الديمقراطية باعتبارها ممثلة لقوة بلاده عالمياً، لطالما نحَّت المصالح الاستراتيجية الأمريكية في العالم العربي قيمها الديمقراطية المزعومة. ولن تسعى هذه الإدارة الأمريكية، أو أي إدارة مستقبلية، لتغيير الواقع الاستبدادي في العالم العربي، ولن تضحّي الولايات المتحدة بمصالحها في المنطقة بغية دعم الديمقراطية.
اعتُبِرَت إدارة الرئيس السابق أوباما ذات مرة هي الأسوأ بالنسبة للمستبدين العرب. واتُّهِم بأنَّه ضحّى بحلفاء الولايات المتحدة، بما في ذلك الرئيس المصري السابق حسني مبارك، والرئيس التونسي السابق زين العابدين بن علي، وحرق جسور الثقة بين الولايات المتحدة والأنظمة العربية الحليفة في خضم رياح الربيع العربي.
تخلى أوباما لاحقاً عن هذه السياسة، وغضَّ الطرف عن الثورات المضادة الرامية لدفن الأحلام الشعبية بالديمقراطية واستعادة الاستبداد العربي، لاسيما بعد قتل السفير الأمريكي في مدينة بنغازي الليبية عام 2012. اعتُبِرَت هذه نقطة تحول في سياسة الولايات المتحدة الخارجية، إذ تراجعت عن التدخل في سوريا، ما حوَّل ميزان القوى لصالح النظام السوري.
وهنا يبرز سؤال شرعي: بما أنَّ السياسات الأمريكية لا تهدف مُخلِصةً لنشر الديمقراطية، لماذا تبالغ الأحزاب العربية الإصلاحية والإسلامية في ترحيبها بالإدارة الجديدة، بما يصل إلى حد الاحتفالات الكبيرة بين النخب السياسية؟
السبب الرئيسي هو أنَّ الديمقراطية نفسها كانت عُرضة لهزة عنيفة في الولايات المتحدة خلال إدارة ترامب، تزامناً مع صعود الحركات الشعبوية واليمينية في أوروبا. وباتت فاعلية النظام الديمقراطي ومستقبله موضع شك عالمياً.
كانت السنوات الأربع الماضية حالكة لأولئك الذين يحلمون بأنظمة عربية ديمقراطية، لكنَّ استعادة إدارة أمريكية تُقدِّر المبادئ الديمقراطية، على الجبهة الداخلية على الأقل، تنقذ هذا النموذج من مزيدٍ من التدهور.
بايدن والعودة إلى الديمقراطية
مع أنَّ السياسة الخارجية الأمريكية لن تخضع لتغيير كبير، فإنَّ العودة لسياسات تُقدِّر مُثُلاً مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان وحرية الإعلام والحكم الرشيد -وإن كانت في المرتبة الثالثة أو الرابعة من الأولويات- هي عودة للوضع الراهن.
جو بايدن الرئيس الأمريكي المنتخب، أرشيفية/ رويترز
من الناحية التاريخية، حدَّت حساسية الولايات المتحدة تجاه قضايا حقوق الإنسان والحريات من انتشار الاستبداد والهمينة المطلقة للحكومات العربية. وفي حين لم تُحدِث الضغوطات الأمريكية تغيُّراً جوهرياً، فإنَّها فرضت قيوداً على السياسات الاستبدادية. لكنَّ هذه المعايير اختفت تماماً في حقبة ترامب، ومنح الأنظمة العربية شيكاً على بياض للتصرف كما يحلو لها داخلياً، بمباركة من الولايات المتحدة وبلا حراك من أوروبا.
قد يتغير هذا جزئياً في ظل الإدارة الأمريكية الجديدة، ما يفتح مجالات جديدة أمام النشطاء الإصلاحيين والديمقراطيين لمقاومة السياسات الاستبدادية، وهو تغيُّر سيكون أكثر وضوحاً على مستوى المجتمع المدني.
إذ تهتم الإدارات الأمريكية الديمقراطية بتعزيز المجتمع المدني، الأمر الذي يمنح قيمة سياسية لنشطائه. وتعتبر المجتمع المدني النواة التي يمكن للتيار الديمقراطي الليبرالي العربي النمو انطلاقاً منها، والحاضنة الأقوى لمساعدة حقوق المرأة والحريات الإعلامية.
وبالتالي سيكون من الصعب على الحكومات العربية عمل ما يحلو لها، دون ضابط أو رابط، كما كان الحال خلال عهد ترامب.
وقد لا يكون الاختلاف كبيراً جداً بالنسبة للإسلام السياسي، لكنَّه سيكون مؤثراً. إذ ضغط ترامب بقوة لتصنيف الإسلام السياسي، بكل أطيافه، حركة إرهابية. وفي حال كان فاز بالانتخابات، لكان واصل الضغط، مُشيطناً الحركات والحكومات الإسلامية في أرجاء المنطقة، وصابغاً إياها كلها بلون واحد، من حزب النهضة التونسي وحتى تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”.
بايدن وإحياء المسار الديمقراطي
استُخدِمَت مثل تلك الحركات كفزَّاعات لمقاومة المسار الديمقراطي في العالم العربي، بمزاعم أنَّ الديمقراطية ستؤدي إلى حكم إسلامي من شأنه، بمرور الوقت، أن يتحول إلى “نظام فاشي”. والمنطق هنا هو أنَّه ما دام هناك حضور ديمقراطي لتلك الحركات، وبإمكانها المنافسة، فلا ضير من التضحية بالديمقراطية نفسها. ويدعم اليمين الأمريكي والفريق المحيط بترامب هذا النهج.
وفي حين أنَّ بايدن لن يُغيِّر هذه المعادلة جذرياً، وأنَّ الحساسية الأمريكية العامة من الحركات والأجندات الإسلامية ستبقى كما هي، فإنَّه لن يكمل السير في نفس مسار ترامب.
إذ سيُميِّز بايدن بين الحركات التي تتبع المسار الديمقراطي وأولئك الذين يُنظَر إليهم باعتبارهم “متشددين”، ويفتح قنوات تواصل مع حركات معينة. وبالتالي سيفقد المستبدون العرب ذريعة “البعبع الإسلامي” كوسيلة لسحق الحركات الديمقراطية.
ومن المرجح أن يدعم بايدن الاستنتاجات العديدة التي وصلت إليها إدارة أوباما، والتي اتضحت في المقال الشهير الذي يحمل عنوان “The Obama Doctrine” (عقيدة أوباما) بمجلة The Atlantic الأمريكية، بما في ذلك تحميل الأنظمة العربية الاستبدادية المسؤولية والتركيز على أهمية الإصلاح.
وأظهرت حملة بايدن الانتخابية مواقف شبيهة، لن تكون التغيُّرات في السياسة الأمريكية جوهرية وجذرية، إذ تميل المصالح التقليدية للغلبة على الحسابات الأمريكية على حساب القيم المثالية، لكنَّ التحول سيكون مفيداً في إحياء المسار الديمقراطي والحد من قبضة الاستبداد العربي الجديد.