أردوغان.. رجل تركيا المريض* مالك العثامنة
النشرة الدولية –
مع كل أحداث نوفمبر الذي نعيشه، تحمل الأخبار أيضا تغيرا في خطاب رجب طيب أردوغان، تغير جديد في سياق تقلبات رئيس الجمهورية التركية الأكثر جدلا وتقلبا في المواقف.
الأخبار تحمل لهجة ناعمة ورسائل تودد في خطابات أردوغان ورسائله نحو واشنطن، وأوروبا والسعودية كذلك !!
هذا تصرف براغماتي طبيعي أمام احتدام الصراع مع روسيا، لكن غير الطبيعي والمتطرف هو أن الصراع مع روسيا أيضا كان صناعة أردوغان نفسه بمواقف متقلبة حين توغل في مجال روسيا الحيوي وعبث أكثر من اللازم في جغرافيا الشرق لإقامة مشروع طوران العظيم، وهو ما يفسر حينها تغير الموقف التركي القديم والساعي بجهد لتكون تركيا جزءا من الاتحاد الأوروبي، فأدار رأس الدولة التركية ظهره ( وصار العالم كله يعرف تفاصيل ظهر الرجل كما من كانوا حلفاءه في الداخل التركي أكثر من وجهه)، لمطلب تركيا القديم مع أوروبا، فخسر كل فرص العضوية فعليا، وكانت مغامراته الممتلئة بالترميزات العثمانية في شرق المتوسط أخيرا لعبة سيئة الأداء قد يخسر فيها باسم تركيا ما قد يكون فعلا حقوقا بحرية عادلة لأنقرة.
هذه مقدمة فيها اتهامات لرجل سياسة دولي معروف هو نفسه باتهاماته التي يوجهها بكل الاتجاهات حوله، لكن فلنبدأ من أول السطر ونوضح أولا، ما هو مشروع طوران العظيم، وكيف أفسد أردوغان مسيرة مفاوضات شاقة ومضنية ولعقود طويلة لعضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي، كما يجب أن نوضح “التعنت” الأوروبي غير المعقول الذي خلق الاستبداد الأردوغاني نفسه، تماما مثلما خلق الأوروبيون ذات تعنت وسوء تقدير لمواقف هتلر في ألمانيا.
مشروع طوران العظيم
وهو آخر مغامرات أردوغان في تبديل المواقف بشكل جوهري، والرهانات الحادة المتطرفة التي يدمن تغييرها أثناء السباق نفسه.
ومشروع طوران العظيم، فكرة عصبوية فاشية تؤمن بسيادة الطورانيين وتدعو إلى هيمنة العنصر الطوراني، وقد ظهرت في مرحلة متأخرة جدا من الدولة العثمانية، وكانت فكرة شوفينية مستبدة في مواجهة فكرة الخلافة الإسلامية “المستبدة أيضا”.
في الدولة التركية الحديثة التي أسسها مصطفى كمال أتاتورك ( والذي لم يخل عهده من الاستبداد على كل ما أسسه في الدولة)، قام سياسي وضابط عسكري تدرب في ألمانيا النازية على يد ضباط نازيين بحمل لواء الفكرة الطورانية، واسمه أرسلان توركيش. وأسس حزب الحركة القومية التركية، وهو حزب يؤمن بإمبراطورية “تركية” تمتد من إسطنبول حتى حدود روسيا والصين وبلاد فارس وتتوغل في الدول العربية.
الحزب منذ نشأته لا يخفي عداءه وكراهيته في كل أدبياته للأكراد وتعصبه الشديد ضد الروس والأرمن والعرب.
ورث دولت بهتشلي زعامة الحزب عن توركيش، وهو لا يقل تعصبا عن سلفه بل وله طريقة في الخطاب تحمل عنصرية واضحة ضد العرب كما يخاطب أوروبا على أنها “صليبية” ويصف أمريكا بالإمبريالية الشيطانية (يذكرنا هذا بخطاب الملالي الإيراني)، واستطاع بهتشلي وهو سياسي بامتياز أن يصل بالحزب إلى جماهيرية واسعة حتى صار من الأحزاب القوية في تركيا وحليف حزب العدالة والتنمية في السلطة حاليا.
حزب العدالة والتنمية الحاكم الذي تم تأسيسه مطلع الألفية الحالية على يد عبدالله غل وأحمد داود أوغلو ورجب طيب أردوغان بدأ منتهجا توجها سياسيا نحو دولة تركية ديمقراطية علمانية بطابعها وثقافتها الإسلامية، مع توجه في السياسة الخارجية عنوانه “صفر مشاكل”! وذلك للنهوض بالاقتصاد التركي الذي كان قد بدأ يتلمس استحقاقات نجاح سياسات الرئيس التركي الراحل تورغوت أوزال، صانع كل نجاحات الاقتصاد التركي الحالية.
انفراد أردوغان المستمر بالسلطة، ونزعته الاستبدادية المركبة في شخصيته، أثرت على مسيرة الحزب والدولة بالضرورة، مما دفع في النهاية كلا من عبدالله غل وأحمد داود أوغلو إلى الانشقاق التراجيدي عن العدالة والتنمية وأسس كل منهما حزبا جديدا بذات الأفكار التي حملاها مع تأسيس العدالة والتنمية، مع الأخذ بعين الاعتبار أن داود أوغلو كان فعليا وعمليا منظر كل أفكار العدالة والتنمية.
في انتخابات الرئاسة التركية الأخيرة، وتحرك أردوغان لتغيير الدستور نحو نظام رئاسي يجمع السلطات والنفوذ بين يديه وحده، كان حلفاؤه التقليديون قد انفضوا من حوله، فاتجه عمدة إسطنبول السابق وتلميذ فتح الله غولن الذي ناصبه العداء الدموي الشرس بعد ذلك، نحو حزب الحركة القومية التركية بتحالف سياسي استفاد منه الطرفان، وكان حزب الحركة القومية التركية أصلا قد حقق حضورا قويا في المشهد السياسي التركي منذ عام ١٩٩٩ حيث بلغت نسبة الأصوات التي حصل عليها 18٪.
وفي عام ٢٠١٨ ومع التحالف الجديد والنوعي والمفاجئ مع العدالة والتنمية بنسخته الأردوغانية الجديدة، كان الاتفاق بين بهتشلي وأردوغان مفاده أن يدعم بهتشلي بكل قواه السياسية ونفوذه الحزبي ترشيح أردوغان لرئاسة الجمهورية، مقابل أن يعمل أردوغان كرأس للدولة التركية على مشروع حزب الحركة القومية بجعل تركيا مركزا للمشروع الطوراني القائم أساسا منذ عام ٢٠٠٩ عبر تأسيس مجلس التعاون للدول الناطقة بالتركية أو ما يسمى اختصارا (المجلس التركي)، والذي ضم عند تأسيسه تركيا وأذربيجان وكازخستان وقيرغزستان وأوزبكستان كما انضمت إليه مؤخرا تركمانستان، وهو منظمة دولية تقع أمانته العامة في إسطنبول، طبعا مع تبني فكرة الحزب الأساسية بأن تكون تركيا دولة مركزية في آسيا وجزءا منها لا جزءا من أوروبا كما كانت طموحات مؤسس تركيا أتاتورك، وسعي كل من أتوا بعده من رؤساء حتى أردوغان.
الأخطر في مفاهيم وأدبيات المشروع الطوراني ليس في الحزب الذي تقيده القوانين والتشريعات في الدولة التركية، لكن في منظمات متطرفة تتبع الفكرة وليست مرتبطة بالحزب رسميا لكنها تلقى الرعاية منه ومن سلطة إردوغان مثل منظمة غير حكومية مسجلة رسميا في تركيا اسمها باختصار ووضوح “طوران”، لكن شعارها الذي يصرح به رئيسها ومؤسسها وهو طوراني متعصب جدا اسمه درويش رجب فار يتلخص بجملة طويلة ومكثفة ومرعبة: “سيادة طورانية تمتد من هضاب ماشار إلى السهول المجرية ومن سهول سبيريا إلى الصحارى العربية”.
في السياسة الخارجية، فعليا انتهجت أنقرة في بدايات عهد “العدالة والتنمية” سياسة “صفر مشاكل” التي وضع أسسها أحمد داود أوغلو وعبدالله غل، لكن مع استفراد أردوغان بالسلطة وانفضاض حلفائه المحترفين في السياسة عنه، أصبحت تركيا مع أردوغان مشكلة الجميع في الإقليم، وفي العالم، ورافق ذلك بالضرورة لتأثر الاقتصاد دوما بالسياسة، هزات مزلزلة في العملة التركية التي وصلت في نوفمبر الحالي إلى سعر ( 8,54) أمام الدولار مع ارتفاع منسوب الفساد الذي صار حديث الشارع وانتهى باستقالة ضاجة بالشبهات لوزير المالية وهو صهر أردوغان نفسه المتهم بالتلاعب المصرفي، مع انخفاض واضح في جودة المؤسسات التركية التي أسس لها تورغوت أوزال الراحل ببنية مؤسساتية قوية بعد فتح السوق أمام التجارة الحرة.
أحمد داوود أوغلو نفسه، لم يعد قادرا على الصمت وهو أقرب من عرفوا أردوغان وكان مستشاره ووزير خارجيته ورئيس وزرائه حيث صرح مؤخرا بعد استقالة بيرات البيرق صهر أردوغان ووزير المال، أن تركيا مع أردوغان بصدد العودة إلى نظام القبيلة. وأكد داود أوغلو على ضرورة احترام المؤسسات والعودة إلى النظام البرلماني للوقاية من سطوة الرئيس المتسعة باستمرار.
طبعا، أردوغان الذي لا يزال يحاول توسعة فقاعته الشعبية التي يعيش في داخلها إلى أوسع حجم ممكن، لا يزال يعتاش على غوغائية من يصدقون بمزرعة الوهم التي يزرعها باستعراضات درامية متنوعة ربما كان أكثرها تجليا في الذاكرة ما قام به في منتدى دافوس عام ٢٠٠٩، عندما أخذ الميكرفون من مدير الندوة وبدأ بتقريع عبثي وشديد اللهجة لشمعون بيرس “الرئيس الإسرائيلي الراحل”، ثم أنب بقوة منتدى دافوس وخرج من القاعة في الدقائق الأخيرة أصلا من الجلسة.
كنت أنا شخصيا – ولا أخفي ذلك- ممن أخذهم الإعجاب بجرأة الرجل، وهي لحظة عاطفية انتهت مع نضج الوعي عبر السنوات، لننتهي بحسم مثير للدهشة في أغسطس الماضي حين صرح أحمد داود أوغلو نفسه وهو ممن كانوا مع أردوغان في حادثة “الدقيقة الواحدة” تلك، أردوغان “لم يقل الحقيقة وكلانا يعرف ما جرى تلك الليلة في دافوس بعد اختفاء الأضواء، هو يعلم أني قمت شخصيا بدبلوماسية الباب الخلفي من أجل الاعتذار من شمعون بيريس بصفتي كبير مستشاري أردوغان وقتها وهذا الاعتذار تم من هاتفي الشخصي”.
إذن نحن أمام رجل مولع بالاستعراضات، والانقلاب الدرامي بالمواقف السياسية وتغيير الرهانات حتى والخيول لاتزال تركض في منتصف الحلبة.
من يرون في الرجل “خليفة الإسلام المنتظر” عليهم أن يطلبوا منه توضيحا حول تحالفه العضوي مع حركة شوفينية ترى في العرب كائنات أقل شأنا من ناحية العرق، ومن يرى فيه أملا للأمة وقصة نجاح عليه أن يدقق جيدا في تصريحات الرجل الأخيرة بعد لعبة البوارج البحرية في شرق المتوسط، وهو يرسل إشارات إلى أوروبا من جديد ليؤكد أن تركيا جزء من أوروبا، ويهاتف الملك السعودي قبل أيام، في خطوة تودد موجهة لواشنطن وقد تغير فيها ساكن البيت الأبيض والساكن القادم الجديد ألمح إلى سياسة أكثر حزما مع أنقرة ( وهذا يشي بانقلاب أردوغاني وشيك على حلفائه القوميين في أنقرة).
وفي مقالنا القادم، الجزء التالي من هذا المقال، سنوضح ونتوسع بقضية تركيا والاتحاد الأوروبي، تلك العلاقة الشائكة والمعقدة منذ عقود، وكيف أفسد أردوغان نفسه كل فرصة ممكنة لتركيا كي تصبح عضوا أو شريكا موثوقا لأوروبا، وكيف أيضا – وللإنصاف- تواطأت أوروبا عبر سوء التقدير في خلق حالة عداء “شعبوي” تركي ضدها وقام أردوغان بتوظيفه في سلسلة مغامراته ومقامراته المستمرة.