«حل الدولتين» وأهميته المزدوجة للشعب الفلسطيني وللدولة الأردنية* عدنان أبو عودة
النشرة الدولية –
ربط الأردن منذ فترة طويلة منظوره للأمن الوطني الأردني بإقامة دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة، على حدود ال67، على أن تكون عاصمتها القدس الشرقية.
واعتبر هذا الحل (في المنظور الإستراتيجي الأردني) متشابكاً مع قضايا الحل النهائي، كالحدود والقدس وحق العودة للاجئين والأرض ومرتبطاً بمصالح حيوية أردنية، سواء على صعيد عودة اللاجئين (نسبة معتبرة من الأردنيين من أصول فلسطينية ويملكون حق العودة)، أو القدس (الوصاية الهاشمية)، لأسباب عديدة منها ما يرتبط بالمعادلة الديمغرافية الأردنية، ومنها ما يتعلق بالهواجس من محاولات أميركية أو إسرائيلية لتوريط الأردن في الوضع الفلسطيني الداخلي، وكذلك ما يتعلق بالبعد التاريخي والرمزي بالنسبة للهاشميين.
تحاول هذه الورقة مناقشة القناعة في الأوساط السياسية الأردنية والفلسطينية بما يتعلق بحل الدولتين وتبعاتها على الأردن وفلسطين وذلك في ضوء الخطوات الأخيرة للإدارة الأميركية، سواء بإعلان صفقة القرن ونقل السفارة إلى القدس، أو ما طرحته من تصور الحل النهائي يفضي إلى إلغاء حل الدولتين، كما يفهمه الأردنيون والفلسطينيون، وينهي عمليا حلم إقامة دولة فلسطينية حقيقية وليست شكلية، كما أنّه يقضي على «حق العودة» للفلسطينيين المهجّرين، عمليا وواقعيا، ويدفع نحو كيان مشوّه يسمى الدولة الفلسطينية، ولايمت لمعنى الدولة بأي صفة من الصفات.
الخطوات الأميركية الواقعية والتصورات النظرية التي طرحت للحل النهائي، ثم اتفاقيات التطبيع العربية المتلاحقة مع إسرائيل والحديث عن«السلام الإقليمي» كمصطلح لاستدخال التطبيع مع إسرائيل وتعويم المطالب الفلسطينية لتصبح أقل أهمية وجدوى في معادلة المنطقة؛ كل ذلك يعني أنّ الخيار الذي طالما سعى إليه الأردن ودافع عنه، وكتب فيه جلالة الملك عبد الله الثاني كتابا بعنوان «الفرصة الأخيرة»أصبح في خبر كان.
هنا تحديداً يبدو السؤال مشروعاً بل ضرورياً واستراتيجياً: كيف ينظر الأردن إلى هذه التطورات؟ وما هي انعكاسات ذلك على أمنه الوطني؟ وما هي الخيارات البديلة أردنياً وفلسطينياً أيضاً لأنّ هنالك اشتباكا وتداخلا كبيرا في هذا المجال بين المصالح الاستراتيجية الأردنية والفلسطينية على السواء؟ هل ما زال بالإمكان القيام بشيء لحماية حل الدولتين ومواجهة مخطط تصفية الدولة الفلسطينية وتفريغها من الأسس الحقيقية لها؟
حل الدولتين.. خلفية تاريخية
حينما يُذكر تعبير «حل الدولتين» في أي وسيلة إعلامية في عالمنا هذا، يفهم من دون تردد أن المقصود هو النزاع الفلسطيني الإسرائيلي. لقد طال هذا النزاع وأفرز من المشكلات ما جعله مألوفا في الخطاب السياسي الدولي، سواء في قرارات الأمم المتحدة، أو البيانات السياسية المشتركة، أو المؤتمرات الصحفية التي يتحدث بها وزراء الخارجية العرب في الإقليم العربي أو خارجه.
ويُذكر المصطلح (حلّ الدولتين) عادةً في سياق الحديث عن السلام؛ باعتباره هدفاً مهماً، ومرغوباً على صعيد إقليم الشرق الأوسط، والصعيد العالمي؛ وذلك لأهمية استقراره.
لقد نشأ هذا الاهتمام بعد العدوان الإسرائيلي على مصر والأردن وسوريا في حزيران 1967، والذي نجم عنه احتلال أراض في الدول الثلاث كان من بينها الضفة الغربية وقطاع غزة الفلسطينيين، وقد مهدت إسرائيل لذلك العدوان سياسيا؛ لتجعله يبدو لاحقاً حرباً استباقية للدفاع عن إسرائيل لتنجو من العقاب بحسب ميثاق الأمم المتحدة.
صدر عن مجلس الأمن بعد الحرب قرار 242،الذي نص على مبادئ السلام، وأهمها الانسحاب من الأراضي المحتلة تمهيداً لقيام سلام دائم. تعثر الجهد الدولي للتوصل إلى سلام دائم، وأنهيت مهام المبعوث الدولي السويدي الدكتور جونار يارنج المعين لهذه المهمة، ثم وقعت حرب جديدة في تشرين أول 1973، وتدخلت الولايات المتحدة الأمريكية؛ لإنهاء هذه الحرب، ليتبعها ثلاث اتفاقيات سلام عربية إسرائيلية، كانت الأولى معاهدة كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل عام 1979، والتي على أساسها استردَّت مصر أراضيها المحتلة، وبعدها اتفاقية أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل عام 1993، والتي لم تؤد إلى انسحاب إسرائيلي من الأراضي الفلسطينية المحتلة، بل إقامة حكم ذاتي فلسطيني، والاتفاقية الثالثة تمت بين الأردن وإسرائيل عام 1994. أما الأراضي السورية المحتلة فقد بقيت في قبضة إسرائيل؛ لفشل المحادثات التي أدارتها الولايات المتحدة بين الدولتين، وإنه لجدير بالذكر أن عملية السلام في الشرق الأوسط انتقلت منذ حرب تشرين 1973 من الأمم المتحدة إلى الحضن الأميركي.
ورد في اتفاقية أوسلو نص اعتراف منظمة التحرير الفلسطينية بدولة إسرائيل، ولم يرد فيها بالمقابل نص عن إقامة دولة فلسطينية، واتفق المتفاوضون على إرجاء هذا الموضوع لما سمَوه بالاتفاقية «الحل النهائي» الذي فهم منه الفلسطينيون والعالم إقامةَ دولةٍ فلسطينية؛ باعتبار أن قيامها هو الذي سيجلب السلام الدائم للإقليم، أما إسرائيل فقد اكتفت في هذه المرحلة بالاعتراف بمنظمة التحرير كممثل شرعي ووحيد للفلسطينيين. لقد مضى على الاتفاقية حتى اليوم سبعة وعشرون عاماً ولم تقم دولة فلسطين ولم يجلس الجانبان للتباحث بالحل النهائي. من المسؤول عن ذلك؟
اللاعبون الرئيسون في عملية السلام
بالإضافة إلى طرفي النزاع (إسرائيل والسلطة الفلسطينية) فإن اللاعبين الرئيسين في عملية السلام هم: الأمم المتحدة، ثم الولايات المتحدة والتي أمسكت بخيوط اللعبة منذ أوائل سبعينيات القرن الماضي، كما ذكرت سابقا. ولاحقاً شُكلِّت الرباعية الدولية عام 2002، وكان في عضويتها كل من الأمم المتحدة، والاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة، وروسيا. وفي ما يلي سأتطرق لعرض دور كل طرف على مدى ربع القرن الماضي.
أبدأ بالأمم المتحدة باعتبارها ملاذ الدول والشعوب المظلومة وفقا لميثاقها الذي يعتبر أساس القانون الدولي ومرجعيته، منذ أنشئت السلطة الفلسطينية حتى يومنا هذا لم تتوقف إسرائيل عن بناء المستوطنات وتوطين اليهود فيها مواصِلَةً بذلك ما بدأته مباشرة بعد احتلال الضفة الغربية عام 1967، مخالفة بذلك اتفاقيات لاهاي وجنيف.
لم تتوقف الدول العربية عن تقديم الشكاوى ضد إسرائيل؛ بسبب هذه المخالفة المفضوحة، لتليها السلطة الفلسطينية بعد قيامها بمواصلة تقديم الشكوى، ولكن إجراءً حقيقيا واحدا لم يتخذ لوقف هذه المخالفة. وحينما كانت السلطة تلجأ لمجلس الأمن شاكية كانت تُستقبل بالفيتو الأميركي الذي وظفته الولايات المتحدة أكثر من أربعين مرة ضد الشكاوى الفلسطينية، وذلك بالرغم من الإجماع العالمي على إدانة السلوك الإسرائيلي.
إنّ الولايات المتحدة لعبت دور الشريك غير المباشر مع إسرائيل في بناء المستوطنات، ومن المفيد أن نذكِّر بأنّ الولايات المتحدة، ومنذ أرادت أن تلعب دوراً في إقامة السلام قدمت وحتى الآن اقتراحين: أولهما حمل اسم الرئيس ريغان وهو مبادرة السلام التي طرحها في تشرين ثاني 1982 بعد إخراج الفدائيين من لبنان، وكان جوهر ذلك المشروع هو إقامة حكم ذاتي في الضفة الغربية (وغزة) مرتبط بالأردن، وورد فيه ذكر وقف الاستيطان الإسرائيلي، ولكن لم يذكر إقامة دولة فلسطينية، بل إنه استبعد تحقيق سلام من خلال إقامة دولة فلسطينية. وثانيهما مشروع الرئيس ترمب المسمى «صفقة القرن» وهو أيضا لم يذكر دولة فلسطينية حقيقية.
في آذار 1991 بعثني جلالة المرحوم الملك الحسين وبناء على طلب من واشنطن بإرسال مبعوث عنه ليشرح له المسؤولون ماذا قصد الرئيس بوش بمؤتمر دولي للسلام، وهو الذي أعلن عنه بعد تحرير الكويت في 28 – 1-1990 في لقائي مع جيمس بيكر وزير الخارجية الأميركي آنذاك، قال لي صراحة: «لن يكون هناك دولة فلسطينية بل كيان أقل من دولة وأعلى قليلاً من حكم ذاتي». من هذا نستنتج أن اللاعب الثاني في عملية السلام يتبنى الموقف الإسرائيلي بعدم إقامة دولة فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة.
أما اللاعب الثالث أي «الرباعية» التي تضم الولايات المتحدة وشُكّلت عام 2002، وتوقف عملها عام 2016 فلم تتمكن من إحراز أي تقدم نحو السلام الدائم بإقامة دولة فلسطينية، واكتفى وزير الخارجية الأميركي في عهد الرئيس أوباما، جون كيري (آخر ممثل أميركي في الرباعية) بإسداء نصيحة لإسرائيل بأنّ سياساتها ستؤدي إلى نشوء أبارتايد سيسيئ إلى صورتها في العالم. من الواضح أن الموقف الأمريكي يعكس سياسة الدعم الأميركية لإسرائيل، والتي تقوم سياساتها على عدم إقامة دولة فلسطينية.
لماذا ترفض إسرائيل حلّ الدولتين؟
هذه الحقيقة تثير تساؤلاً هاماً للغاية وهو: لماذا ترفض إسرائيل قيام دولة فلسطينية؟ وهو الامر الذي سيؤدي إلى قبولها في المحيط العربي وسيزيل عنها الإحراج العالمي!. إن موقفها هذا ضد المنطق والعقلانية، وفي ما يلي سأفسر عدم عقلانية هذا المنطق.
حينما قررت الأمم المتحدة عام 1947 تقسيم فلسطين إلى دولة يهودية وأخرى فلسطينية رفضت الدول العربية السبع هذا القرار، بالإضافة إلى ممثلي فلسطين الذين رفضوه ابتداءً لعدم عدالته، كما رفضوه لسبب آخر وهو رفضهم لزرع جسم غريب في الإقليم العربي، فالإقليم عربي الهوية والثقافة والتاريخ والديموغرافية. ورد الفعل العربي بهذا المعنى كان منطقيا؛ لأنهم تصرفوا كما يتصرف جسم الإنسان حين يتسلل فيه جسم غريب، فينتفض؛ لطرد ذلك الجسم الغريب، وإذا فشل الجسم في طرده يعمد إلى حوصلته انتظارا لليوم الذي تمكنه مناعته من التخلص منه. وهذا ما حدث بالضبط حينما فشل العرب عسكريا في التخلص منه عام 1948، فاضطروا إلى حوصلته التي اتخذت شكل محاصرته ومقاطعته التي استمرت حتى عام 1967 حينما حققت إسرائيل انتصارا عسكريا ساحقا على الجيوش العربية منهية الحصار، وذلك حينما قبلت مصر والأردن قرار مجلس الأمن 242، وقبلته سوريا بعد حرب تشرين وذلك بقبولها قرار مجلس الأمن 338 الذي نص على قرار 242، ونتيجة قبول هذين القرارين فتحت الأبواب لإسرائيل وانتهى الحصار وأصبحت عملية السلام هي مرجعية سائر الدول بعد أن قبلت الدول العربية وجود إسرائيل في الجوار، بعدما كانت سابقا رافضة له.
كان المطلوب هو استرجاع الأرض المحتلة وتأسيس السلام. فمضت الدول العربية في إعلان قبولها بدولة إسرائيل؛ إذا تحقق السلام، وأقيمت الدولة الفلسطينية، ووصل الأمر حد الإعلان في قرار القمة العربية في بيروت 2002 أن العرب سيتقبلون إسرائيل في وسطهم، وبذلك وعدت الدول العربية بقبول ما رفضته عام 1947، وإنشاء علاقات طبيعية معها. ومع ذلك لم تستجب إسرائيل لهذا العرض الكريم في تصرف غير منطقي. لماذا؟ لا بد أن يكون له سبب.
إسرائيل هي مشروع حركة قومية يهودية، ومع أنّ الدين لا يشكل قومية، إلا أن قادة هذه الحركة الصهيونية تمكنوا في القرن التاسع عشر في أوروبا، وهو قرن القوميات والاستعمار، من مزج الدين بالتاريخ وبالاضطهاد المسيحي لليهود في أوروبا بحركة تعمل على إنقاذهم وإيجاد وطن لهم ليحميهم، وكانت فلسطين هي المكان المرتجى. فشكّل هذا المفهوم أيدولوجية تجسّدت في إسرائيل.
إن رفض إسرائيل لقيام دولة فلسطينية بالضفة الغربية وقطاع غزة مدفوع بتمسكها بأيديولوجيتها التي تقوم على ركيزتين: الأولى أرض فلسطين وقد أمنتها بالكامل في حرب حزيران 1967، أما الثانية فإن الأرض لليهود فقط وبالتالي لا تسمح بقيام دولة فلسطينية على أرض تعتبرها يهودية حتى لا تنحرف بأيديولوجيتها.
إذن الموقف الإسرائيلي الرافض لقيام دولة فلسطينية هو موقف أيديولوجي، وليس موقفا سياسيا مبنيا على تحقيق المصالح، ويحكم العقل لا العاطفة عند اتخاذ القرار. ولتأكيد موقفها الأيديولوجي أصدرت قانون القومية اليهودية عام ٢٠١٨ الذي يُعرِّف إسرائيل بدولة قومية للشعب اليهودي فقط. منذ عام ١٩٤٨ وقبل سن هذا القانون بنحو سبعين عاما تعاملت دولة إسرائيل مع الفلسطينيين الذين لم يخرجوا من بيوتهم في مدنهم وقراهم وفق مضمون هذا القانون من خلال العمل على الحد من تكاثر الفلسطينيين، بشكل غير مباشر، حينما وضعت تعليمات تمنع أو تعرقل إضافة بناء جديد على مبنى العائلة القائم في المدينة أو القرية؛ لتمنع الزواج المبكر أو تؤخره. ومع ذلك يشكل هؤلاء الفلسطينيون المقيمون في إسرائيل اليوم حوالي 20% من سكانها، ويقيم معظمهم بمنطقة المثلث، والتي يقترح الجانب الأمريكي–حسب تفاصيل خطة ما يعرف بصفقة القرن–إمكانية «إعادة رسم حدود إسرائيل، وفقاً لاتفاق الطرفين، بحيث تصبح مجتمعات المثلث جزءاً من دولة فلسطين».
يذكّرني ذلك بمثال على مكر التاريخ؛ فالمثلث قبل توقيع اتفاقية الهدنة «رودس» الإسرائيلية الأردنية في نيسان عام 1949 كانت تحت سيطرة الجيش الأردني، الذي خلق وجوده الخصر النحيل لإسرائيل وكانت تسعى لطرد سكانه، فضُغط على الأردن ليتنازل عنه وليصبح المثلث أرضا إسرائيلية فيما تنازلت إسرائيل عن التلال الجنوبية لمدينة الخليل، ضمن مفاوضات كانت صعبة ومعقدة. وشرعت إسرائيل بالضغط العسكري على سكانه ليهاجروا كما فعلوا ذلك في مناطق أخرى، إلا أنهم ثبتوا ولم يهاجروا ليصبحوا اليوم مصدر قلق لإسرائيل؛ حيث أصبحت منطقة المثلث مصدر قلق ديمغرافي وجغرافي لهم.
أعتقد أن ما يعمي أبصار القيادة الإسرائيلية أمران اثنان:
الأول:
وقوف أقوى دولة في العالم (الولايات المتحدة) إلى جانبهم، وسكوتها على مخالفاتهم العديدة للقانون الدولي، وحمايتها لهم بسلاح الفيتو، ووجود مجموعات ضغط وأشخاص نافذين من الجالية اليهودية الأميركية وهي فاعلة بما يخص السياسات الأميركية، والتي تؤثر بشكل فاعل وكبير في كثير من الأحيان في السياسة الأميركية، وبخاصة في الشرق الأوسط، ومثال على ذلك، منظمة أيباك، فضلاً عن المجموعة الإنجيلية المتشددة في الولايات المتحدة.
الثاني:
الذي حد من عقلانيتهم فهو الظفرية التي استولت عليهم بعد انتصارهم العسكري الساحق على الجيوش العربية في حرب حزيران عام 1967. فالظفرية جعلتهم يشعرون أن بإمكانهم تحقيق المستحيل. وفي رأيي أنّ إنجازهم الاخير، بالحصول على الاعتراف، وتطبيع العلاقات مع دول عربية في الاطراف هي: الامارات العربية المتحدة، ومملكة البحرين، والسودان. بعد أن حققت سلاماً مع مصر والأردن المجاورتين، مما يغذي داء الظفرية ويزيده درجات، ويزيدهم عنادا؛ مثلما غذت الظفرية القيادات الإسرائيلية، حينما احتلت إسرائيل سائر الأرض، وحققت نصف الحلم الأول.
والسؤال هو: هل سيقبل الإسرائيليون بالوصول إلى الصورة السيئة التي حذرهم منها وزير الخارجية كيري بأنهم في رفضهم لإقامة الدولة الواحدة ذات القوميتين، ولإقامة دولة فلسطينية على الأراضي المحتلة سيجعلون من بلدهم دولة أبارتايد؟ الأمر يعتمد على تغير البنية السياسية الإسرائيلية حيث ما زال اليمين الأيدولوجي هو المسيطر معظم الوقت منذ اغتيال إسحاق رابين عام 1995، آخر زعيم سياسي إسرائيلي كان يؤمن بالسلام، إذ منذ اغتياله تراجعت قوة السياسيين الذين تتحكم بهم قوة الفكر السياسي المتعقل لتحل محلهم قوة اليمين الأيدولوجي، وأخشى أن الحال إذا ما استمر على ما هو عليه أن يعمل اليمين الأيدولوجي الحاكم على تفريغ أرض فلسطين من أكبر عدد من الفلسطينيين، ليحققوا النصف الثاني من الحلم، وهو تصفية الأرض منهم، وهذا أمر لا يخفيه الكثيرون، وخاصة اليمين أو الأيديولوجيون المتشددون منهم الذين يصرحون أنّ الأردن هو فلسطين.
ما العمل أردنياً وفلسطينياً؟
ومن هنا لا بد لنا كأردنيين أن نكون حذرين وناشطين للحفاظ على الأردن،ومن المؤكد أن عدم قيام الدولة الفلسطينية وشطبها من الخريطة، سيكون له تداعيات جسيمة على الهوية الأردنية. والحقيقة أن هذه الخشية كانت قائمة منذ وقت مبكر لدى القيادة الأردنية أيام جلالةالمرحوم الملك الحسين، ويقيني أنها ما زالت قائمة مع جلالة الملك عبدالله الثاني، ومرد حدسي هذا هو ثبات الموقف الأردني في تأييده لحل الدولتين. علينا ان نؤيد هذا الموقف ونطلب من القيادة الأردنية أن تتوسع بكسب تأييد قادة عرب ومسلمين ودوليين لهذا الموقف. وبخاصة أن حل الدولتين دوليا هو الشائع، وهو الذي يسهم في منح الشرعية للمطلب الفلسطيني. وعلى الأردن أن يجتهد في العمل على إنهاء الانقسام الفلسطيني في الأرض المحتلة الذي يضعف من موقفهم عالميا إذ أن الميدان العالمي هو الميدان الخصب الذي يتلقى بالترحيب المطالب الفلسطينية بحقهم في تقرير المصير، وإقامة دولتهم المستقلة وخاصة بعد انتهاء الحرب الباردة، وزوال الاتحاد السوفيتي الذي كان يركز على الاقتصاد وليس على القيم العالمية كما هو الحال اليوم في الدول الديموقراطية؛ حيث نجاح حركة المقاطعة BDS في الجامعات والمجتمعات الغربية يؤكد لنا ذلك. و«حل الدولتين» بالنسبة للأردن ينبغي أن يكون في صلب استراتيجيته الدفاعية في علاقته الدولية؛ لأن حل الدولتين كمدخل للسلام الدائم في الشرق الأوسط يتبناه العالم بما في ذلك الأمم المتحدة.
وللأهمية الأمنية لحل الدولتين بالنسبة للأردن، أقترح تشكيل لجنة عليا لمتابعة مواقف دول العالم منها بقصد التمسك بإدامتها لأهميتها في بناء السلام والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط ذات الأهمية الدولية. وتكون مهمة اللجنة دراسة مواقف الدول، والتعرف على مداخل مصالحها، وربطها بحل الدولتين.
تطبق القيادة الأردنية هذه المعلومات في نشاطها الدبلوماسي على الصعيد الثنائي، ثم الدولي. ويتم ذلك في العادة أثناء زيارات جلالة الملك لعواصم دول العالم، ومشاركته في المؤتمرات الدولية حيث ينصح بتضمين كلماته إشارة إلى سلام الشرق الأوسط، وربطه بحل الدولتين. وحين يصدر أي بيان عن ذلك النشاط أكان على الصعيد الثنائي أو الدولي، يجب العمل على تضمينه إشارة إلى حل الدولتين كركيزة للسلام الدائم في الإقليم.
إنّ إدامة حل الدولتين كمطلب عالمي من شأنه على الأقل ردع إسرائيل، وربما تراجعها عن نواياها التوسعية. وينبغي ألا يقتصر هذا النشاط على عمل الحكومة، بل لا بد أن يتعداه إلى المنظمات الأهلية والاتحادات الطالبية؛ لتوسيع قاعدته عالميا. وسيكون ذلك من نشاطات ومهام اللجنة العليا المقترحة التي تؤسس علاقات صداقة مع هذه المنظمات.
ولعل أهم وسائل الدفاع الاستراتيجي عن الأردن هو العمل الواعي، والجهد المتصل على تثبيت سكان الأرض المحتلة في أرضهم. وفي هذا السياق لا بد من التذكير بأنّ من أبرز الظواهر العالمية هي الهجرة من أجل الرزق. فالآسيويون يهاجرون، والأفارقة يهاجرون، وكذلك الشرق أوروبيين، والعرب.
الهجرة من أجل الرزق قد تكون محركا رئيسا في تفريغ الأراضي الفلسطينية؛ حيث يلعب العامل الاقتصادي عامل ضغط وإجبار لهجرة الفلسطينيين، وقد يشجع ذلك توفر أماكن أو بلدان معينة بحاجة إلى مهاجرين وعمال مهرة وهي جاهزة لاستقبالهم، ولا أستبعد أن تكون دول الأطراف العربية الغنية بالموارد، والتي فتحت أبوابها لإسرائيل مؤخرا، هي واحدة من البلدان التي سوف تفتح أبوابها لاستقبال الفلسطينيين الباحثين عن الرزق.
ولأن التثبيت يعني صمود الفلسطينيين في الأراضي المحتلة أمام تخطيط إسرائيل لاقتلاعهم هو الوسيلة المثلى لسد الطريق أمام شرعنة الضم؛ على الأردن الرسمي، وكذلك على اللجنة العليا المقترحة أن يتابعا هذا الأمر بجدية تحضيرا للدفاع عن الذات دون التوقف عن الدعوة لحل الدولتين، وإبرازه كحل أفضل؛ لكسب الرزق بتطوير الدولة الفلسطينية المقترحة، وإبراز إمكاناتها المرئية والكامنة للتطور. كما يمكن للأردن أن يتصدى لمهمة تثبيت الفلسطينيين في الأرض المحتلة من خلال اعتماد وتفعيل عدة إجراءات أخرى، قد تكون واحدة منها تلك التي تعمل على تسهيل استيراد المنتجات الزراعية والصناعية الفلسطينية. وأردنيا ينبغي الا يقل تمسكنا بحل الدولتين عن تمسكنا بالأقصى. ومن الجدير بالملاحظة أنّ معظم دول العالم بما في ذلك الدول العربية تنادي بحل الدولتين من دون أن تقرنه بمطالبة إسرائيل بوقف الاستيطان. ومن المهم أن يُطور هذا الموقف لينادي بحل الدولتين ووقف الاستيطان تمهيدا لاستئناف المفاوضات؛ لأن شعار حل الدولتين لا يوقف الاستيطان، حتى المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية قبل أن تتوقف كانت تجري والاستيطان مستمر، حتى وصل عدد المستوطنين ما وصل إليه من مئات الألوف. فلا شعار حل الدولتين، ولااستئناف المفاوضات دون وقف الاستيطان يساعد على إقامة الدولة الفلسطينية.
وأقترح على الحكومة الأردنية أن توظف دبلوماسيتها لشرح هذا الأمر للدول الغربية الصديقة كي يصبح موقفها «حل الدولتين ووقف الاستيطان». إن هذه الملاحظة مهمة للغاية والا سنكون نلعب لعبة إسرائيل ضد إقامة الدولة الفلسطينية دون أن ندري.
وأخيراً لا بد أن يكون الأردن والسلطة الفلسطينية على وعي تام بحيلة دولة الارخبيل الفلسطينية؛ أي الدولة المشكلة من قطع أراض متفرقة غير متصلة يطلق عليها اسم دولة. وهذه الحيلة تتجانس مع الايدولوجية، التي تريد إخراج أكبر عدد من الفلسطينيين من الدولة اليهودية باقتطاع أصغر أرض ممكنة مع أكبر عدد من الفلسطينيين. ولكن لأن من أهم سمات الدولة الحقيقية هي تواصل الأرض ذات الحدود الواحدة، والتي تمتلك سلطة السيادة على الأرض، والسماء، والماء.
الخوف كل الخوف أن تنجح إسرائيل والولايات المتحدة بخداع العالم بتقديم دولة أرخبيلية يطلق عليها دولة فلسطين.
*ورقة نشرت عن مؤسسة فريدريش إيبرت