لماذا خسرت فرنسا معركة الرأي العام أمام الإسلاميين؟* فارس خشّان

النشرة الدولية –

خسرت فرنسا، رئاسة وحكومة وإعلاماً، الجولة الأولى من المواجهة التي فتحتها مع التنظيمات الإسلامية العاملة على أراضيها.

لا تعود هذه الخسارة إلى المواقف التي اتخذتها دول ومرجعيات إسلامية، فحسب بل إلى انضمام منظمات دولية غير حكومية، مثل منظمة العفو الدولية وصحف كبرى تتقدمها الأميركية منها، إلى الحملة المندّدة بسلوك فرنسا، أيضاً.

الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يُعيد الحملة التي شُنّت عليه، وألحقت بصورته أضراراً فادحة في الرأي العام العالمي، إلى ما يُسمّيه-وأحياناً عن حق-تشويه كلماته ومداخلاته، بحيث جرى تصوير مواقفه المعادية للراديكالية الإسلامية ومتطرّفيها، بأنّها مواقف معادية للديانة الإسلامية والمسلمين.

ولكنّ هذه التوضيحات التي أطلّ بها على الإعلامَين العربي والأميركي، وسط تنشيط استثنائي للدبلوماسية الفرنسية بقيادة وزير خارجيته جان إيف لودريان، لم تؤتِ ثمارها المرجوّة.

وشكا ماكرون من أنّ بلاده شهدت بعد مجزرة مجلّة “شارلي إيبدو” في كانون الثاني / يناير 2015 التفافاً دولياً لافتاً جداً، على خلاف ما حصل بعد قطع رأس أستاذ التاريخ صموئيل باتي وقتل ثلاثة مؤمنين في كاتدرائية “نيس” الكاثوليكية.

إذن، لماذا خسرت فرنسا معركة الرأي العام؟

إنّ جولة عميقة على الوقائع، تبيّن أن القيادة الفرنسية لم تنطلق في مواجهة الإسلام الراديكالي، من أسس “متعارف عليها” و”مقبول بها”، بل هي قدّمت إلى الواجهة خطاباً تفهمه أو تطلبه أو ترغب فيه غالبية الفرنسيين، ولكنّه يحتاج إلى جهد استثنائي، لتقبل به شعوب أخرى تتقدّمها تلك التي تنتمي إلى الديانة الإسلامية.

فالقيادة الفرنسية لم تحمل لواء محاربة الإرهاب أو لواء محاربة فرض التنظيمات الدينية لنمط سياسي واجتماعي يناقض الدستور، فحسب بل هي حملت لواء “حق التجديف” الذي يعني إتاحة المجال رحباً أمام الإساءة إلى الأديان ورموزها بشتى وسائل التعبير ولا سيما الرسوم الكاريكاتورية.

وهذه العناوين التي رفعت القيادة الفرنسية لواءها، تعني، في هذه المرحلة بالتحديد، المسلمين وديانتهم ونبيّهم.

وكان لافتاً للانتباه أنّ مواجهة العمليات الإرهابية تمثّلت في توسيع نشر الرسوم الكاريكاتورية المسيئة للنبي محمّد، على أوسع نطاق بما فيها عرضها على مبان رسمية في عدد من المدن الفرنسية.

واعتبرت القيادة الفرنسية أنّ الوقوف ضد الرسوم الكاريكاتورية المسيئة للنبي محمّد الذي لم يقتصر على المسلمين فحسب بل تعدّاه إلى رجال دين مسيحيين كما هو عليه حال مطران تولوز، هو دفاع عن الذبح والقتل والإرهاب.

وباتت غالبية الشعوب كما غالبية المرجيعات الدينية، وعلى رأسها “الأزهر الشريف”، أمام مأزق كبير، إذ إنّ نبذ الإرهاب، بالنسبة للقيادة الفرنسية، بات يعني الموافقة على الإساءة للنبي محمّد.

وبناء عليه، دفعت باريس العالم إلى أن يتوزّع إلى ثلاث فئات، واحدة صغيرة تؤيّدها، ثانية صاخبة تعارضها، وثالثة كبيرة وقفت على الحياد.

إنّ النهج الذي اتبعته القيادة الفرنسية هو الذي أخسرها وسمح للراديكالية الإسلامية بأن تكسب معركة لم يكن مقدّراً لها أن تكسبها، لأنّها، بفعل هذا النهج الفرنسي، تمكنت من أن تستّر أعمالها المشكو منها بمسألة يصعب على غالبية المسلمين أن تتنكّر لها، وهي الإساءة إلى النبي محمّد.

وخلافاً لما يظنّه البعض، فإنّ الرسوم الكاريكاتورية، ولو أخذت بُعداً إسلامياً، إلّا أنّها تثير استياء سائر الأديان، إذ إنّ أيّاً منها لم تخرج سليمة من خطوطها وألوانها.

وعليه، فإنّ رفض المسلمين لأيّ دعوة فرنسية للقبول بهذه الرسوم الكاريكاتورية، لاقى هوى لدى أتباع الديانات الأخرى، وسمح للصحافة الأميركية بأن تستهجن فرض العلمانية الفرنسية قواعدها على جميع الأطياف الفكرية والدينية والحضارية، في خطوة من شأنها أن تمسّ مبدأ احترام التعددية في المجتمع الواحد.

وقد أفادت هذه “الكوّة” التي فتحتها القيادة الفرنسية خصومها، في الداخل والخارج، فتوسّلوها من أجل إلحاق أكبر ضرر بها وبصورتها وبسمعتها في العالم الإسلامي.

والمتضررون ليسوا قلّة، ذلك أنّ التدابير التي بدأت الحكومة الفرنسية اتخاذها تقضي بحل تنظيمات إسلامية وإغلاق جوامع ومراقبة التمويل ومنع “استيراد” الأئمة من الخارج، كتركيا على سبيل المثال، وتشكيل مرجعيات فرنسية تُعنى بكل تفاصيل الديانة الإسلامية.

إنّ خطأ القيادة الفرنسية الذي أفاد خصومها وأربك حلفاءها لم يكن في إعلان معركة مع الإرهاب ومع التنظيمات الإسلامية، بل كان في اعتبار الدفاع المطلق عن حق الإساءة للأنبياء من “عدّة المواجهة”.

قد تكون فرنسا، رئاسة وحكومة ووسائل إعلام، مقتنعة في ما ذهبت إليه، ولكنّ لهذه القناعة ثمن مرتفع، دفعت جزءاً منه فقط، في معركة الرأي العام.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى